العالم أتعبه الوضع الحالي والبديل هو العودة للحرب الباردة

TT

عندما تصل المدمرة الأميركية «يو.أس.أس .ماك فول» وترابط في البحر الأسود قبالة ميناء «باتومي» الجورجي، فإن هذا يعني ان حرب القوقاز الأخيرة، التي يبدو أنها ستنفجر مجدداً إن ليس في المكان نفسه الذي انفجرت فيه ففي مكان آخر من هذه الجبهة العريضة الملتهبة، لم تكن مجرد مناوشة ساخنة بين الولايات المتحدة الأميركية وبين روسيا، بل انها التأكيد الذي لا يقبل التشكيك فيه على ان الحرب الباردة التي اكتوى بها العالم كله والتي أنجبت حروباً ومواجهات عسكرية كثيرة قد عادت مجدداً وبين القطبين الرئيسين السابقين نفسيهما.

وبالطبع فإن لعبة التسخين المتصاعد تقتضي ان ترتدي هذه المدمرة ثوب المهمة الإنسانية، وأن تخفي ما تحمله من صواريخ وذخائر وأسلحة ومتفجرات تحت رزم من «البطَّانيات» وصناديق معبأة بالأغذية والمواد الطبية فالتحدي بين الولايات المتحدة، التي رغم كل هذا الذي يجري في العالم لاتزال تصر على واقع القطب الواحد، وعلى أنها القوة الوحيدة وبلا منازع في الكـرة الأرضية، وبين روسيا التي اتخذت هيئة جوزيف ستالين، ولكن بلا شوارب مشرأبة ولا ملابس عسكرية بأزرار نحاسية لامعة بات يقترب من المواجهة الساخنة المباشرة.

لم يكن انفجار حرب جورجيا مفاجئاً وبلا مقدمات فالولايات المتحدة، التي تعتقد أنها قدمت للعالم الرأسمالي هدية لا مثلها هدية في بدايات تسعينات القرن الماضي هي رأس الاتحاد السوفياتي وفتح قبرٍ عميق وواسع للمنظومة الإشتراكية وللشيوعية العالمية، تمادت كثيراً في إهانة روسيا، التي مرَّت بلحظة تاريخية مريضة في عهد بوريس بلتسن غير الميمون، وهي لم تكتف بإعلان حوض بحر قزوين، الذي تشير التقديرات الى ان احتياطيه من النفط يبلغ أرقاماً فلكية، منطقة مصالح استراتيجية أميركية بل ولجأت الى الاستفزاز والى المزيد من الاستفزاز بفتح أبواب حلف شمالي الأطلسي لدولٍ تعتبر تاريخياً مجالاً حيوياً للامبراطورية الروسية إن في عهد القياصرة وإن في عهد امبراطورية لينين وخلفائه، وإن في عهد فلاديمير بوتين هذا ومن بينها جورجيا وأوكرانيا وأذربيجان. فالاحتكاك ظهر مبكراً وهو بدأ في البلقان وفي مناطق أخرى بعيدة، لكنه ما لبث ان تحول الى مجابهة مكشوفة بعد إعلان «كوسوفو»، بدعم أميركي، دولة مستقلة اعتبرتها موسكو خنجراً في خاصرة القومية السلافية، وبعد ان نقلت واشنطن خطوط حلف شمالي الأطلسي الى مواقع متقدمة في اتجاه منطقة القوقاز وما وراء منطقة القوقاز والمباشرة في ترتيبات إقامة قواعد دروع صاروخية في بعض دول أوروبا الشرقية من بينها بولندا التي كانت عاصمتها مقر حلف وارسو الذي كان يقوده ويهيمن عليه عسكرياً وسياسياً واقتصادياً الاتحاد السوفياتي السابق.

جاء الاصطفاف على أساس بروز معسكرين متقابلين، على غرار ما كان قائماً قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، وهو قد بدأ في فترة مبكرة قبل ان تصل المواجهة الى حد اندلاع حرب القوقاز الأخيرة التي أثبتت روسيا فيها أنها تخلصت من لحظة بوريس يلتسن المريضة، وأنها استعادت لياقتها كرقم رئيسي في المعادلة الدولية، وأن عالم القطب الواحد بات في طريقه الى الزوال إن ليس لمصلحة قطبين رئيسيين فلمصلحة التعددية القطبية، التي تطالب بها أيضاً الصين والهند والدولتان الأوروبيتان الرئيسيتان فرنسا وألمانيا.

ووفقاً لهذا الاصطفاف، الذي إن هو تواصل وبقي مستمراً، فإن هذا يعني ان الحرب الباردة باتت تقف على الأبواب، وأنها قادمة لا محالة رغم كل محاولات تأخيرها بحجة المصالح الأميركية ـ الروسية المشتركة، فقد بادرت إسرائيل الى حشر أنفها في صراع القوقاز ولجأت الى إمداد جيش جورجيا بالأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة، ومن بينها طائرات الاستطلاع بدون طيار التي استخدمت في الحرب القوقازية الأخيرة وقبل ذلك ردّاً على دعم روسيا للجيشين السوري والإيراني بالأسلحة المتطورة التي من بينها الصواريخ الباليستية المتوسطة والبعيدة المدى. ثم وبالإضافة الى هذا، فإن هناك من يرى ان بروز حلف «فسطاط الممانعة والمقاومة» الذي تقوده إيران والذي يضم سوريا وحزب الله وحركة «حماس» والحزب الإسلامي الأفغاني بقيادة قلب الدين حكمتيار وربما «القاعدة» و«طالبان» أيضاً قد جاء كأحد إرهاصات المواجهة الكونية المرتقبة التي يبدو أنها ستكون أكثر من مجرد حرب باردة والتي قد تتخللها حروب إقليمية كالحرب الكورية والحرب الفيتنامية وحرب عام 1967 العربية ـ الإسرائيلية والحروب الأخرى التي تنقلت في مناطق كثيرة في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية.

وهنا فإن المؤكد ان روسيا الصاعدة، التي يقودها فلاديمير بوتين نحو الثنائية القطبية وعلى غرار ما كان عليه الوضع بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة، إن هي ليست متورطة في ما يجري في أفغانستان وفي العراق وفي لبنان وفلسطين بصورة مباشرة، فإنها على الأقل المستفيد الرئيسي من إشغال الأميركيين بكل هذه الحروب الجانبية وبكل هذه المواجهات التي تستنزفها والتي تدفع شعوباً وأمماً كثيرة في العالم كله الى كرهها واتخاذ مواقف معادية لسياساتها التي ازدادت حماقة وتهوراً في عهد هذه الإدارة الجمهورية السيئة الصيت والسمعة. والملاحظ بالنسبة لعملية الاصطفاف المتصاعد هذه، ان سوريا لم تخف انحيازها الى المعسكر الروسي، ردّاً على انحياز إسرائيل الى المعسكر الأميركي والدعم الذي قدمته وتقدمه للجيش الجورجي، وأن هناك دولاً عربية إن هي لن تنخرط مباشرة في عملية الاستقطاب الجارية الآن على قدم وساق كما يقال فإنها تبدي ارتياحاً كبيراً لزوال الأحادية القطبية لمصلحة عالم ثنائي القطبية أو متعدد الأقطاب.

لقد ملَّت غالبية دول الكون، ومن بينها معظم الدول العربية، وقوف العالم على رجلٍ واحدة وهي تعبت تعباً شديداً من هذه الحالة ومن استفراد الولايات المتحدة بكل شيء في الكرة الأرضية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وهذا هو الذي يدفع الراغبين في التخلص من هذه الوضعية الى الترحيب بأي تغيير في المعادلة القائمة الآن حتى وإن انتهت الأمور الى استيقاظ الحرب الباردة الكريهة التي سُحقت خلالها شعوبٌ كثيرة صغيرة وكبيرة. إنه غير جائز بالنسبة للعرب الذين كانوا ضحايا الحرب الباردة السابقة ان يقفوا الموقف السابق نفسه وأن يتحولوا الى «قيسٍ ويمن» والى «مناذرة وغساسنة» وأن يحاربوا حروب الآخرين وأن يصطف بعضهم الى جانب المعسكر الشرقي الروسي ويصطف البعض الآخر الى جانب المعسكر الغربي الأميركي فهذه كارثة محققة، ويجب هذه المرة ان تكون هناك كتلة عربية لا تنحاز إلا لمصالحها المشتركة، وأن يكون اقترابها أو ابتعادها من هذا المحور أو ذاك على أساس هذه المصالح.. وهذا مطلب صعب جداً وقد يكون مستحيل التحقيق.

ربما أن سوريا تسرعت عندما أعلنت، انحيازها الى روسيا وعرضت، وإن بصورة غير مباشرة، إقامة شبكة دروع صاروخية روسية على أراضيها ردّاً على إقامة شبكة الدروع الصاروخية الأميركية على الأراضي البولندية، وهذا قد يصبح مكلفاً جداً، وبخاصة وأن دمشق تنخرط في المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل بوساطة تركيا المنحازة أيضاً الى الولايات المتحدة والتي وصل انحيازها هذا الى حدِّ تزويد جورجيا بالأسلحة والذخائر خلال حرب القوقاز الأخيرة وقبل ذلك.. إن موسكو لم تصبح بعد في وضع يسمح لحلفائها بالإقدام على أي مغامرة عسكرية، فالتفوق العسكري لا يزال الى جانب الولايات المتحدة ثم وأن إسرائيل التي هي بحاجة الى إثبات وجودها في هذه المعادلة الدولية قيد التشكيل، قد تستغل هذا الانحياز السوري المتسرع وتوجه ضربة عسكرية مدمرة لأهداف سورية تعتبر استراتيجية ومهمة، وهذا يجب ان يدفع الرئيس بشار الأسد الى التريث والى دراسة الأمور جيداً، حتى لا يجد بلاده ذات يوم قريب في ورطة كارثية.