ليلة أن شعرت بالخوف

TT

بعيدا عن كل حيثيات الحزن والغضب التي يمكن أن تنبثق من حريق مبنى مجلس الشورى المصري التاريخي العريق، 19/8/2008، فاجأتني نفسي بآلام خوف يداهمني، إذ رأيت في ألسنة اللهب وحشا عنيدا واثقا بإمكانه أن تمتد أطرافه الأخطبوطية إلى حيث يشاء.

كنت أخاف الزلازل والبراكين لأنها قوة دمار مباغتة يقف الإنسان أمامها عاجزا، لم يعلم كيف بدأت ولا يملك إرادة إنهائها، أما الحرائق فهي، إن لم تكن بفعل فاعل مجرم، تكون بفعل إهمال فاحش وتقصير خائن للأمانة.

شاهدت عام 1971 حريق دار الأوبرا الخديوية الملاصق للمركز الرئيسي لإدارة إطفاء الحريق بميدان العتبة، ودارت وقتها الثرثرة الخائبة التبريرية نفسها، حول كيف أنها خشب في خشب ولذلك كان من السهل أن ينشب فيها الحريق، كأن قابلية الأوبرا للاشتعال كانت سرا تم اكتشافه على التو، كأنها لم تكن تضاء بالمشاعل والشموع من دون أن يمسها الخطر، لأن الذي أنشأها عام 1869 أقام بالقرب منها وحدة إطفاء جاهزة للدفاع عنها منبها على ضرورة تأمينها.

بعد حريق الأوبرا احترق متحف الفن الإسلامي بباب الخلق وتمت «كلفتة» الحدث بخسائره المروعة، مادية ومعنوية، بالثرثرة المعتادة عن الخشب وقابليته للاشتعال، وظلت حرائق منطقة الموسكي والصاغة، وما يجاورها من متاجر شارع الأزهر تأكل ورش الصناعات المحلية، أحذية وملابس وخلافه، بمعدل حريق كل أسبوع، أو ما يقرب من ذلك، حتى صارت من طبائع الأمور يدهشنا سكونها كأن النار قد تقاعست عن أداء عملها المتوقع!

حرائق.. حرائق.. حرائق، كلها من ابتكارات الإهمال واستفحالات التقصير، والاستهتار واللا مبالاة، استكمالا لمشاهد طفح المجاري وانفجار المواسير واختلاط مياه الصرف الصحي مع مياه الشرب، سواء بسبب انتهاء العمر الافتراضي للمواسير القديمة أو بسبب خراب ذمة من أشرف على تجديدها بأردأ الأنواع وأسوأ المهارات، التي لا تهتم بغلق الفجوات لتصبح من جانبها آبار موت تبتلع الأطفال، وحوادث صعق المواطنين بأسلاك الكهرباء العارية المدلاة، ناهيك من تلال القمامة التي تمرق جوارها العربات الفارهات لتجسيد مفارقة المثل المصري الشائع «زبال وفي يده ورده»! وإذا بالقاهرة العزيزة تنسحب برمتها إلى العشوائية، وفوق ذلك لا يكف الريفيون الزاحفون إليها من قرى الشمال والجنوب عن إذلالها لعاداتهم ليروا فيها بصمة قريتهم انتصارا على محاولاتها ترويضهم على الارتقاء إلى المدينة، ولا يكف شعراؤهم وكتابهم عن سب القاهرة العزيزة ولطمها وركلها كلما واتتهم فرص ولولة حنينهم إلى قراهم. نعم أنا بنت المدينة وقد تمنيت أن تنهض القرى وترتفع إلى صلاح المدينة وأحكام نظامها وتنسيقها وانضباطها ونظافتها وأمنها وأمانها، لا أن يحدث العكس الذي نعايشه ويستفحل يوما بعد يوم، لتتحول القاهرة إلى قرية نهبط معها حتى نصل إلى حريق مجلس تاريخي، منوط بفحص شكاوانا، لتعديل المائل، ودفع الأخطار، وتهدئة الخواطر، وتأكيد حقنا في الأمن والأمان والطمأنينة.

ليست الخسارة في اللوحات النادرة لكبار فنانينا الرواد التي كانت تزين الجدران، ولا يجدي معها أنها، مع تلك الوثائق التي قال الدكتور فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب المصري، قد تم حفظها في الكمبيوترات، فهذا كلام به الكثير من التبسيط والاستهانة بقيمة الخسائر مع كونه مؤشر دال على العقلية التي نظر بها هذا المسئول وقرينه إلى وسائل تأمين سلامة مبنى المجلسين الشورى والشعب. الخسارة الحقيقية هي في ذلك الهلع الذي بات يحاصرنا، وليس سببه فحسب حافلات القهر والقمع التي تحاصر الجامعات والمنشآت بالأمن المركزي، بواقع دائم «عمال على بطال»، ولا الجوع، ولا غلاء الأسعار، ولا طوابير الخبز، والسحابة السوداء، وأوبئة الأمراض الفيروسية والسرطانية، وعصابات تجارة الأعضاء البشرية.. إلخ، إن الهلع الأكبر هو هذا الكشف: أننا في «تيتانيك» تغرق ولا يهتم أحد من المكلفين حمايتنا بالبحث لنا عن أطواق إنقاذ بعد أن احتكروا لأنفسهم كل قوارب النجاة.