الأمازيغية.. إضاءة ثانية وأخيرة

TT

أعود إلى الموضوع الذي تطرقت إليه في مقالي الأخير، نظرا لتعليقات أثارها، كان واحد منها فقط ينطلق من زاوية التشكيك، بينما تجاوب معي آخرون في المنطق الذي تناولت به الأطروحة التي قدمتها. وأريد أن أشرح الاطمئنان الذي يخالجني وأنا أتناول الموضوع، وهو يقوم على عنصرين.

الأول اجتماعي اقتصادي، يتجلى في أن الفسيفساء العرقي الذي يتألف منه المجتمع  المغربي تتساوى عناصره في الاستفادة من المزايا الاقتصادية والسياسية المتاحة، بقدر ما أن التهميش والحرمان، كما قلت في المقال السابق، يمسّان جهات وفئات متنوعة في انتمائها العرقي والجهوي. فنحن المغاربة، كل واحد منا ينتمي إلى أقلية، ومجتمعنا على وجه الإجمال هو ائتلاف أقليات. ومن السهل أن يلاحظ المرء وجود منتمين إلى مختلف الفئات والجهات في مختلف مراكز القرار السياسي والاقتصادي.

وإذا تأملت النومينكلاتورا المغربية تجد أن المواقع مقسمة، وفق هندسة سياسية مخدومة، تسمح بالقول إن لا أحد يحتكر القرار في مجال من المجالات. وكان يمكن أن يكون الوضع مهددا بل خطيرا، لو أنه كان هناك احتكار لفائدة فئة بعينها، وأن هناك آليات مكرسة تعمل على إقصاء فئات غيرها. وفي بلد يمكن أن تجد فيه شخصا يحمل اسم العلوي مسجلا في لائحة طالبي العمل، لا يصح فيه القول إن سلالة معينة تستبد بمقاليد الأمور السياسية والاقتصادية. وإذا ما لاحظت اكتظاظا في بيئة معينة لحاملي أسماء ينتمون إلى جهة معينة، ففي الوسع الاستدلال بوجود اكتظاظ مثله في مستوى آخر. والخطورة تكمن في أن يكون هناك احتكار لفئة، وإقصاء لفئات، استنادا إلى معايير تنطلق من عصبية عرقية.   

العنصر الثاني الذي يلقحني بالاطمئنان، هو التاريخ. فقد صمد هذا الفسيفساء المجتمعي قرونا، وأوجد المجتمع المغربي لنفسه غالبا صيغا تؤمن له توازناته الضرورية. وعبر تلك التوازنات تحقق التوازن بين السكان الأصليين وبين أفواج طرأت من بعدهم. وقد ترسخ انتماء هؤلاء، وأصبح من غير الموضوعي، بعد عشرة قرون أو أكثر، أن يسموا طارئين. إن العنصر الأسود مثلا قديم في المغرب، وفي عهد السعديين جاء فوج آخر من السود. فبالنسبة لهؤلاء هناك طارئون وأصلاء. وهذا حال المهاجرين الأندلسيين الذين استوطن آخر فوج منهم في المغرب بعد سقوط غرناطة، بينما سبقهم أندلسيون آخرون استقروا في البلاد في فترات سابقة، حينما كان المغرب والأندلس إقليما واحدا. ومن الأمثلة على ذلك أيضا، أن مواطنينا اليهود الأصلاء (الطوشابيم) حينما هاجر إليهم اليهود المطرودون من الأندلس، اعتبروا هؤلاء غرباء، وأطلقوا عليهم لقب (ميغوراشيم). وكان أولئك مثل إخوانهم الأندلسيين المسلمين، لا يريدون شيئا آخر سوى أن يعودوا إلى منازلهم التي طردوا منها. وطيلة قرون عديدة، استقر بهم المقام في المدن الساحلية، وأصبحوا مغاربة، لا يقل الواحد منهم مغربية عن الآخر، يتميزون فقط بلكنتهم التي تدل على أصلهم الأول.

هذا الفسيفساء الثقافي والمجتمعي الذي انصهر مع القرون، تعلم كيف يصنع تناغمه، وبالذات كيف يجعل من المغرب، المتنوع في وحدته، حالة فذة يكمن نبوغ أهلها، في النجاح دوما في إقامة آليات تمكن من إعادة صياغة التوازنات المألوفة التي لا سبيل لإقامتها سوى بالعقلانية والواقعية. ولهذا كان متأمل حصيف في التاريخ المغربي، هو الحسن الثاني، رحمه الله، يقول إن المغاربة شعب حباه الله حس التمييز.

وهذا ما جعل المغاربة يتوحدون دائما في المنعطفات الكبرى، وأن تنوعهم يلقحهم بقدر كبير من القدرة على بلورة الوحدة في التنوع. ويكفي التذكير بأنه في زمن النضال ضد الاستعمار كنا خمسة أحزاب تختلف في مشاربها الجهوية وفي مناهجها، ولكنها تعرف كيف تتوحد في الهدف، والحال أن الشعوب تجنح عادة، في فترة النضال الوطني، إلى أن يكون لها تنظيم واحد.

ومن خلال ذلك التنوع كان لتلك الأحزاب عطاء لم يترك لمرجعية غير مغربية أن يكون لها مكان في المغرب. فلا الآيديولوجيا الإخوانية ولا الناصرية أو البعثية وجدت لها مكانا في المغرب، في حين أن بلدانا قريبة منا اخترقتها آيديولوجيات مستوردة من المشرق. وأزعم أنه حتى الشيوعيون المغاربة كانوا يمثلون نمطا خاصا، لأنهم الوحيدون في المنظومة الماركسية العالمية، الذين كانوا يقولون بالملكية، وكانوا يدخلون الإسلام في تحليلهم، باعتبار أن المغرب يجتاز «مرحلة» الثورة الوطنية.

وكل هذا يكاد يبرر القول إن المغرب يمثل كوكبا له فلكه الخاص، ثقافيا وسياسيا. وهذا ما يتجلى في الموسيقى والطبخ واللباس والتقاليد، وقبل ذلك يتجلى في المعمار، ونموذجه الماثل أمام العين الصومعة المغربية المستقيمة الأضلاع، التي تتميز عن الصومعة الشرقية الأنبوبية.

إذا كانت هذه الاعتبارات، وكثير غيرها، تبعث على الاطمئنان إلى أن التوازنات المغربية سرعان ما تجد لنفسها سبيلا لاستواء في صيغة عقلانية وواقعية، كما قلت، فإن بعض الشعارات التي ترفع أحيانا بمناسبة طرح المطالب الأمازيغية، متسمة ببعض الحدة، يجب اعتبارها داخلة في باب التسويق السياسي الذي يجنح أحيانا إلى الإثارة، وحتى إلى الاستفزاز، الأمر الذي لن يفيد في شيء، لأن المغاربة لا بد أن يهتدوا إلى نبوغهم الخاص لمعالجة ما يطرح من المستجدات، خاصة أن القطار موضوع على السكة الصحيحة، بالنسبة لمسألة الأمازيغية، حينما قرر ملك البلاد الأسلوب والمنهاج المضبوطين بخارطة طريق، ستؤدي إلى المعالجة الناجعة للمطالب المذكورة وغيرها.

قد يظهر أحيانا أن هناك رغبة في حرق المراحل، أو نزوعا إلى الظهور بالانفراد بقضية، والاستئثار بمكان الصدارة في تبنيها، وهذا من طبيعة التسويق السياسي. وهو شيء لا يفاجئ في مجال العلوم الاجتماعية، حيث يكون طبيعيا أن يقع تسابق على المواقع وادعاء الصدارة، والرغبة في إزاحة آخرين، بل وحتى توجيه أصابع الاتهام.

وكل هذا لا يحجب شيئا أساسيا، وهو أن تدارك ما فات من أجل أن تتبوأ الأمازيغية مكانها المستحق، أصبح مدرجاً في جدول أعمال الشعب برمته. ولنعتبر أننا في مرحلة بداية التحليق، ولا بد أن نصل إلى الاستواء المتوازن، ريثما تأخذ «الصيغة المغربية» طبيعتها.

إن أسوا ما يمكن أن يقع هو أن تقدم المطالب الأمازيغية، كما لو كانت هناك ضرورة لشن معركة مع العربية، بل ومع العرب. إنه لا يصلح أن تنقل إلى الساحة المغربية مقولات ومواجهات حدثت وتحدث في الجزائر. ببساطة لأن كل بلد له أوضاعه، ولأنه لا يوجد ما يمكن أن يقتدى به مما حدث في هذا البلد منذ 1962 في أي مجال من المجالات. وسواء هنا أو هنالك فإن هناك من يدفع إلى المواجهة، لكي يختصم الناس في لغاتهم الوطنية وتبقى الفرنسية سائدة .

إن المعالجة السارية المفعول، بهدوء وتبصر، للمسألة اللغوية، تجعلنا نتوقع أن بعض الشعارات المستمدة من منطق النعرة، والمصحوبة بوساوس فئوية أو جهوية، لا يمكن أن تحجب الحقيقة، وهي أن الانتماء العربي للمغرب هو في الأساس انتماء ثقافي وإرادي. وقد حسم في هذا زعيم أمازيغي، من مفاخر المغرب في القرن العشرين، هو الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي حينما سأله صحافي، لماذا اختار مصر ليحل بها «لاجئا»، استنكر السؤال وقال لصاحبه: إن المرء لا يكون لاجئا في بلده.