العراق.. أحفاد الزنج والجاحظ!

TT

تُجرّئ الحرية عادة على البوح بالكوامن، حتى العتيق منها، وما أصبح تقاليد معاشةً، على الرغم مما يسندها من أدب رفيع البلاغة وفقه مهيمن. هذا مستهل للحديث عمَّا صدر قبل أسابيع عن ممثلين لذوي البَشرة السمراء بالبَصْرة وما يخبر عن تأسيس كيان يعبر عنهم.

طالبَ جلال ذياب أمين، في لقاء أجرته معه جريدة «الشرق الأوسط» من البَصْرة (تموز 2008)، مستغلا زيارة باراك أوباما، بالنظر في أمر هذه الشريحة الاجتماعية، بل طالب باعتذار عمَّا واجهته طوال تاريخ طويل. نظر أمين إلى تطور العالم في أن يكون صنوهم باللون، قاب قوسين أو أدنى، من عرش أقوى دول العالم، بينما هم يقتلون بالبَصْرة. وما يزيد القلق وتحل المفارقة بإعادة مجد التعسف الاجتماعي، على أساس تصنيف الناس إلى خواص وعوام على المستوى الرسمي، وفي وزارات ما يُعرف بمكاتب السادة، مع أن البلد يعلن الديمقراطية على مصراعيها، لكن كلا يريد تفصيلها على مقاس مصلحته.

لم نتفاتش، يوماً من الأيام، مع أعزِّ أصدقاء الطفولة والصِبا أمر تمايزهم باللون، وهم ما زالوا يحتلون متسعاً من الذاكرة: نوري مدفون، نبيل عبد، علي عبد، شرقي معتوق، توفيق عذاب، خضير عباس وسواهم. نعرف أنهم من بقية حاشية المشيخة بالمنطقة، وذوات السلطة الفعلية، منهم كاتم السر والحاجب، وبعد قصفها بالطائرات البريطانية (1924) ونفي الشيخ سالم الخيَّون (ت 1954) إلى الهند والموصل ظل أجداد الأصدقاء يعيشون بديارهم، وأخذوا لقب العشيرة (الأسدي)، فاحتل الأبناء وظائف في إدارة المنطقة من دون تمييز. وهناك مَنْ شق طريقه ببغداد ليصبح أباً لجيل من كُتاب القصة والرواية على مستوى العراق، وحتى هذه اللحظة مازلت متباهياً مزهواً بإهدائه لمجموعته القصصية، وتلمس سبيل المعرفة عن طريقه.

ساهم هؤلاء في ثقافة البلاد وفنونها، وبثوراتها فهم أحفاد الزنج، وإن كان المُراد بتسميتها طعناً، حسب مجريات التمايز آنذاك. كانت ثورة كبقية الثورات إلا كونها انفجرت بالبَصْرة وهم من سُكانها فساهموا لرفع مظلمة. بيد أن من طبيعة الثورات يتلقف مغانمها السُراة، وسرعان ما يتنكرون لشعاراتهم. وهم أحفاد الجاحظ البصري (ت 255 هـ)، والدليل ما رواه ابن اخته: «كان جد الجاحظ أسود» (تاريخ بغداد)، وتجده معترفاً عندما صَنف رسالته «فضل السودان على البيضان». ويغلب على الظن أن فيلسوف المعتزلة أبا الهذيل العلاف البصري (ت 227هـ) كان من ذلك الأصل، لِما جاء: «لولا هذا الزرجي لخطبنا بالإلحاد على المنابر وكان شديدة السُّمرة» (فضل الاعتزال). هذا، والقائمة تطول إن سطرنا أسماء الشعراء والمتكلمين والأدباء والمغنين من أهل البَصرْة بالذات لا خارجها.

عمرو بن بحر الجاحظ، الذي ليس للعراقي ما يخفف به من وطأة الجهل الغالب على مفاصل الحاضر إلا بأمثاله، أخذ يشتم من على منابر صلاة الجمعة على أنه عميل للاستعمار، أي الدولة البيزنطية، وبأنه أحد مروجي الفلسفة اليونانية ضد الإسلام! فتأمل ما تعبأ الرؤوس به! أقول: لعلَّ شأناً مذهبياً منع هذا الخطيب من الإقرار بالتلمذة إلى أبي حامد الغزالي (ت 505هـ) في «تهافت الفلاسفة» وسواه.

أتذكر جيداً كيف كان يُحرج زملاؤنا وعليهم، مثلما علينا، في المقرر المدرسي، حفظ قصيدة المتنبي (قُتل 354 هـ) في هجاء أبي المسك كافور الأخشيدي (ت 357هـ): «لا تشتر العبدَ إلا والعصا معه.. إن العبيدَ لأنجاس منَاكيد»! كذلك ما زال قارئ مقتل الحسين في العاشر من عاشوراء، يقرأ على لسان جون مولى أبي ذر الغفاري، وهو يتقدم لنصرة الإمام في يوم قل الناصر فيه من الجنس الأبيض، وتُسمع بصوت عبد الزهراء الكعبي (ت 1973) الشجي: «والله إن.. حسبي للئيم، وأن لوني لأسود، فتنفس عليَّ الجنة ويطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيض وجهي» (مقتل الإمام الحسين)! ناهيك مما ورد في رسائل الفقهاء والأحاديث الموضوعة في شأن معاملتهم الاجتماعية، ولا نأتي بها كي لا نزيد في طنبور الكراهية نغمة.

ومع ذلك لا يخلو التاريخ من إنصاف، حيث صُنفت في شأن السُّمر ودورهم الحضاري عدة كتب: «تنوير الغبش في فضل السُّودان والحبش» لابن الجوزي (ت 597هـ)، و«أزهار العروش في أخبار الحبُوش» لجلال الدين السيوطي (ت 911هـ)، و«الطراز المنقوش في محاسن الحُبوش» لمحمد عبد الباقي البُخاري (ت 993هـ)، وغيرها.

ختاماً، لا بد من تفهم دعوة جلال أمين، فلا يكفي أن يُكتب دستور، ويرفع شعار، بل التهيئة الروحية والثقافة العميقة، ومنها إزالة ما في منهج دراسي، أو رسائل فقهية، والحذر مما ينسل من على منابر خُطباء الجمعة.