أردوغان في دمشق.. تمريرات الوقت الضائع

TT

لن يقصد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان العاصمة السورية على هذا النحو العاجل والملح، لتقويم حالة الضجيج والغليان التي تسبب بها التنسيق التلفزيوني التركي ـ السوري في مسلسلي «نور» و«سنوات الضياع» مع أن مواضيع من هذا النوع ستأخذ مكانها قريبا على طاولة البحث، اذا ما قررا الاستمرار في تعاونهما هذا الذي ولد تشرذما وانقساما اجتماعيا وثقافيا في الشارع العربي. لكن أردوغان يتوجه الى دمشق وهو يعرف تماما أن اجتماعه هذا بالرئيس السوري سيختلف كليا عن اللقاءات السابقة خصوصا آخرها الذي جرى قبل اسابيع وسط اجواء عائلية وتوج بدعوة اسرة الرئيس السوري لتمضية عطلة ولو قصيرة في «بودروم» اشهر المنتجعات السياحية التركية المطلة على بحر ايجه.

الحرب الروسية ـ الجورجية ونقمة الكرملين على تل أبيب التي أقحمت الكثيرين في هذا المأزق والازمة السياسية الحكومية المرتقبة في اسرائيل، والتصعيد المتواصل في الملف الايراني وغيرها من القضايا الاقليمية الساخنة، تلتقي كلها امام احتمال أن تكون القيادة السورية علقت مفاوضاتها غير المباشرة التي بدأتها قبل أشهر، بوساطة وضمانات تركية مع حكومة أولمرت، وأن دمشق ستحاول اقناع أردوغان بتفهم موقفها الجديد هذا وضرورة التريث والانتظار حتى تنجلي سحب الدخان الكثيف المتراكمة فوق القوقاز، والتي قد تتسبب في مطر غزير يتحول الى سيول جارفة في الشرق الأوسط.

دمشق وأنقرة ستبحثان مطولا الوثائق والمستندات التي جمعتها طهران وموسكو في الاسابيع الاخيرة، حول ابعاد تفجير الوضع في القوقاز والدور الكبير الذي تلعبه اسرائيل هناك، في محاولات مستميتة للاصطياد في الماء العكر.. استخدام الاراضي الجورجية لرصد التحركات العسكرية الروسية والايرانية ضمن مخطط كبير، يهدف الى الاستفادة من الخدمات الجورجية في اية حرب تريدها عاجلا مع ايران. وهي سياسة استفزازية تصعيدية تتعارض تماما مع الوعود التي قدمتها اسرائيل الى الكثيرين، وفي مقدمتهم انقرة طبعا بعدم المراوغة والتلاعب والتعهد بايصال المفاوضات مع سوريا الى طريق الأمان في اقصر وقت.

الوثائق والمستندات التي قدمتها موسكو وطهران أخيرا الى الرئيس السوري حافظ الاسد، حول سياسة المخادعة الاسرائيلية والتي سلما حتما نسخا عنها لأردوغان، خلال لقاءاتهما الاخيرة بعثرت جميع الأوراق التي كانت تناقش امام طاولة الحوار الخامسة، التي أعدت لها أنقرة بصبر وتأن في محاولة لدفع مسار السلام الاقليمي، وكادت تعطي ثمارها لولا مفاجأة آخر لحظة. السؤال المطروح الآن هو من سيقنع الآخر بوجهة نظره وصوابية تحليله، واستنتاجاته في قراءة الاحداث الاقليمية المتلاحقة. هل ستنجح موسكو وطهران في لعب ورقة سوريا لكسب أردوغان الى جانبهما في مقولة أن اسرائيل واميركا تعدان لأبعد من حرب القوقاز، وأن هذا المشروع يهدف قبل كل شيء لاختراق مناطق ظلت لسنوات طويلة محرمة عليهما في البحر الاسود مركز الثقل في السياسة الخارجية التركية، وان الفرص السياسية والاقليمية التي تعرضها طهران وموسكو اهم كثيرا من العروض الاسرائيلية الاميركية واكثر جاذبية؟ لقاء الشام الخاطف سيناقش أيضا استفسارات وطروحات كثيرة قدمها الرئيس الفرنسي ساركوزي في قمة المتوسط الاخيرة الى تركيا، وتعهدت دمشق خلالها أن تكون وسيط خير بينهما في مسائل لها علاقة مباشرة بالموقف الفرنسي المتشدد حيال موضوع العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي وتساهل باريس في لعبة التوسع النفطي التي تقودها قبرص اليونانية منذ سنوات على حساب النفوذ التركي والقبرصي التركي في شرق المتوسط وسبل اعتماد لغة فرنسية ـ أوروبية جديدة في طرح ومناقشة الموضوع الأرمني الذي يزعج الاتراك الى أقصى الحدود وكلها قضايا تحاول سوريا أن تعرض خدماتها فيها لصالح الجار التركي كبادرة رد جميل مكنتها مؤخرا الخروج ولو جزئيا من عزلتها الدولية، وساهمت في تليين مواقف الكثيرين حيال سياستها في لبنان والوقوف الى جانبها في محنة الغارة الجوية الاسرائيلية على اراضيها، وقد توفر لها فرصة استرداد الجولان المحتل سلميا وعبر المفاوضات.

ملفات اجتماع دمشق ومواضيعه ستعطي اسرائيل فرصة قد لا تعوض لمراجعة سلوكها وسياساتها والتخلي عن لعبة الخديعة والتآمر وتقديم البدائل الحقيقية والضمانات الكفيلة بازالة حالات الريبة والشك، فهل ستقول الحكومة الاسرائيلية الجديدة نعم ولو مرة واحدة لسلام دائم وحقيقي مع دول المنطقة؟

سيعود أردوغان من دمشق مشتت الذهن مترددا في تحديد الموقف بين خيارات المزيد من العروض الروسية ـ الايرانية المشروطة بموقف تركي أكثر علانية ومجاهرة في رفض اللعبة الاسرائيلية ـ الاميركية الجديدة في القوقاز والبلقان والبحر الاسود ويقول رأيه النهائي في عروض بناء تحالف متوسطي جديد يكون للأوروبيين بقيادة فرنسا، ولروسيا التي سهلت سوريا عودتها الى هناك حصص استراتيجية مهمة وكلها اقتراحات ومشاريع ستبعد تركيا عن حليفها الاستراتيجي أميركا التي لن تستسلم وتتراجع بهذه السهولة.

اردوغان وهو في طريقه الى دمشق لم يخف قلقه هذا الذي عبر عنه في كلمته الموجهة الى الشعب التركي مساء السبت المنصرم حين حذر اميركا من دون ان يسميها من محاولات تسخين مياه البحر الأسود خطتها القديمة للرد على محاولات استبعادها من هناك، وعبر عن قلقه من مخاطر حلم العودة الروسية الى المياه الدافئة لمقاسمة اميركا واوروبا حرب النفوذ والتمدد، كما حذر من محاولات التلاعب الاسرائيلي بتركيبات القوقاز والبلقان وآسيا الوسطى الدينية والعرقية لحماية مصالحها على حساب تشرذمنا وتشتتنا. وهو تساءل مرة أخرى عن دورنا وموقعنا في التعامل مع ما يجري باسم اعادة رسم خارطة التوازن الدولي والرجوع الى سياسات الاحلاف تحت غطاء التعددية القطبية؟

* كاتب وأكاديمي تركي