صيف الرحابنة

TT

لا أدري لماذا تقع جميع الحكايات في الصيف، وجميع الروايات، وجميع الانقلابات. ربما لأنه فصل العطلة، والسفر والترحل. العرسان يخطبون في الربيع ويقيمون الأعراس في الصيف. الروايات الغربية تدور في معظمها حول قصص حب عاصفة بدأت في الصيف وانتهت في الخريف. الطبيعة تفعل الشيء نفسه. تحمل في الصيف أجمل العناقيد وأجمل التفاح وتنوء تحت أحمال الأجاص (الكمثرى)، وفي الخريف تذبل العرائش وتصفر الأوراق وتتعرى الأغصان وتصخب الريح وتلوح البروق وتتسابق الغيوم وترتجف الطيور وتحني الثعالب رؤوسا مرفوعة مستسلمة للخوف من الجوع وصعوبة الصيد.

تزدحم المدينة في الخريف وتفرغ القرى وتبدأ الطيور في البحث عن مهاجر وصيف بعيد. والصيف يتمادى في غيابه. ويترك الخريف بلا حماية فيتحول سريعاً إلى شتاء. النسيم يتحول إلى ريح والريح تكبر إلى عاصفة والعاصفة تنفجر في نفسها جراء الغضب الأعمى والحزن على غياب الصيف. لكن الخريف يأتي ويمحو كل شيء بيد تشبه مذراة البيادر الضخمة. وفي الماضي كان ينتظره الرحابنة عند النافذة ليكتبوا له نهاية القصائد الحزينة كي تغنيها فيروز. وما هي قصيدة لورق الشجر لا تغنيها فيروز؟ لقد كتب قبلهم جاك بريفير ملحمته الصغيرة: «الأوراق الميتة تُلم بالسلال». لكن ماذا عرف بريفير عن الشجر مقارنة بهذين الشاعرين العبقريين عاصي ومنصور؟ ألم يمضيا طفولتهما في رعاية الماعز؟ ألم تنحن أكتاف (بالجمع) منصور العريضة من كثرة ما حمل عليها من صناديق العنب في موسم القطاف؟ ما هذه الرحلة العظيمة يا عزيزي منصور، من رعاية الماعز في أحراج المتن إلى تاج الشعر والمسرح واللحن؟ من شرطي بلدية (أنت وعاصي) ومعك هراوة ثقيلة إلى قائد فرقة موسيقية تبعث بعصاك العاجية أجمل الألحان؟ ما هذه المعجزة التي أتيتماها: أن تضعا فيروز بيننا وبين أم كلثوم؟

دعني أعترف لك، حتى الشتاء جعلتموه جميلا، عاصي وأنت وفيروز. حتى الخريف. أما الربيع فكان ينتظر إلى أن تطلوا بلحن آخر. وفي الصيف كان القمر يطل بدرا عندما تحولون حجارة بعلبك إلى مسرح ينهي اللبنانيين عن الانتحار. كم حاولتم أن تعلموهم. وقد أسمعت لو ناديت حيا. كم كتبتم الشعر عن بشاعة الفرقة. وسمعوا وطربوا وغنوا وما فقهوا وما أدركوا وما فهموا أنكم لا تمزحون. ذلك لم يكن مسرحا، كان تحذيرا، النذير بالغناء والشعر والطيبة. كم كان جميلا معكم صيف لبنان وخريفه، ولم يكن ربيعا من دونكم. وها هو الخريف يطل. وعبثا حاولت أن استمهل آب في إيابه. دائما على عجل في طريقه إلى بوينس ايرس، وقرطبة، في الأرجنتين.