(إنه أعظم من نبي).. ولكن المنهج يمنع من قولها!!

TT

لئن ازداد عدد التالين للقرآن في شهر رمضان ـ بوجه خاص ـ، إذ هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن، فإن تالي هذا الكتاب المجيد يلتقي بفيض من الآيات من مثل قول الله ـ تقدس كلامه ـ: «وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم»..

«وإنه لحق اليقين».. «الحق من ربك فلا تكونن من الممترين».. «تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين».. «يس. والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين. على صراط مستقيم. تنزيل العزيز الرحيم».. هذا فيض من آيات القرآن يتعاضد ويتحد لترسيخ اليقين بأن محمدا بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم: رسول من الله بيقين.

ما هي مهمة هذا الرسول ووظيفته ورسالته؟، رسالته العظمى هي (الرحمة) بالناس، هي إسعاد البشرية بحياة طيبة ـ روحيا وماديا ـ (بمعنى صب معنى الرحمة الغامرة والراحة والطمأنينة والسعادة في كل شيء: من الاعتقاد الى الكدح والعمل، الى لقمة الخبز، وقضمة اللحم، وقطعة الحلوى، وحبة الفاكهة، ولذة الجنس، ولحظة الترويح، إلى الباعث والنية والهدف).. وهي سعادة مقرونة أو مسبوقة بسعادة تحرير الضمير ـ بالتوحيد الخالص ـ من الوثنية والشرك، وتحرير العقل بالمقاييس الحقة، والمعرفة الصحيحة من الخرافة والوهم، وتحرير الإرادة من أغلال الطغيان والاستبداد: في أي صورة تبدَّيا، وتحريرها كذلك من عبودية الشهوة والهوى واستحلاء العجز المانع من الوثب الى أمام، والى أعلى.

هذه هي ـ باختصار ـ مهمة الرسول العظمى، ووظيفته الكبرى، وهي وظيفة لا غاية لها إلا إسعاد الإنسان الفرد، وإسعاد البشرية الجمع، بدليل ان الله الذي نزل الكتاب، وابتعث الرسول غني عن العالمين:«ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين»، وبدليل أن رسوله لا يطلب من الناس (أجرا) مقابل السعادة الحقيقية التي يدلهم عليها، ويقدمها إليهم:«قل لا أسألكم عليه أجرا».

ولكن «يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون». نعم.. نعم. إن البشر ـ في معظمهم ـ يتعسون أنفسهم، ويفقأون أعينهم بأصابعهم فيحرمون أنفسهم من النور فيضيرون ـ بذلك ـ أعينهم ولا يضيرون النور!

إن النبي الخاتم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إنما جاء (رحمة للعالمين): رحمة في الاعتقاد الصحيح. وأعظمه وأحلاه وأجمله: الاعتقاد في الله ـ جل ثناؤه ـ بمقتضى معرفة علمية ساطعة يقينية بأسمائه وصفاته وآياته الناطقة بوجوده ووحدانيته وكماله وجماله وحكمته ورحمته: لا إله إلا هو.. وجاء النبي رحمة في التشريع الذي يعدل ولا يظلم، ويلين ولا يتشدد، ويتلطف ولا يعنف، ويتدرج ولا يطفر، ويساوي ولا يفرق أو يحابي.. تشريع إذا تثبت في أصوله وموازينه، يكفل ـ في الوقت نفسه ـ أوسع مساحات الاجتهاد والتجديد للوفاء بما يتطلبه جديد الحاجات والمقتضيات والصيغ في كل عصر.. وهذه حكمة تشريعية لا تصدر إلا عمن يستوي في علمه أمس واليوم وغدا كما يستوي في علمه مصالح أول مولود وآخر مولود وهو الله جل ثناؤه.. «هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم». وحين أعرضت البشرية عن هذه الحكمة تورطت في شقاءين مهلكين: شقاء (التقلب) بسبب فقدان الأصل الثابت، أو بسبب (تحطيم المعيار).. وشقاء (الجمود) الذي حجّر واسعا، وضيق مساحة الاجتهاد أو الغاها.. جاء النبي الخاتم بهذه الرحمات ونظائرها ابتغاء توفير حياة طيبة، وسعادة حقيقية للأسرة البشرية: في كل بيئة، ومن كل جنس، وفي كل جيل وزمان.

ونبي هذه رسالته ومهمته، كان ينبغي أن تعرف البشرية له قدره وحقه، إن لم يكن بالإيمان به وتصديقه، فلا أقل من ان تعرف له جهوده النبيلة في سبيل إسعاد البشرية.. ولكن لا يزال هناك من الناس من يسيء الى هذا النبي الكريم.. ومن أسوأ أنواع هذه الإساءات: الزعم بأنه (ليس نبيا رسولا)!!. ومع انه زعم مستفز لما فيه من ظلم وجهالة، وانه زعم لا يستند إلى أي دليل عقلي أو تاريخي أو معرفي (كالمقارنة بين الأديان: ثبوتا في وصول النص، وعصمة لهذا النص من التحريف والتبديل).. على الرغم من ذلك كله ـ وهو مهول ـ نصبر ونعتضد بالمنهج العلمي، وبالمنطق العقلاني، وبصيغة التفضيل في الجدال الأرقى.. «وجادلهم بالتي هي أحسن».. نعتضد بذلك لنقول:

1 ـ إذا كان محمد قد جاء بكتاب قامت الدلائل على صحته من نصه ذاته: إعجازا بيانيا وتشريعيا وعلميا، وهي (معجزة) لم تزل حية متوهجة غضة: كأن عهدها بالنزول أمس (الجمعة) أو هو أقرب، فهي ـ من ثم ـ معجزة لم تمت ولم تنقطع بموت النبي محمد، بل مطردة في الزمان منذ نزلت والى أن يرث الله الأرض ومن عليها: وما دام على هذا الكوكب بشر يسمع ويرى ويفكر ويعقل الخطاب العقلي.

2 ـ إذا كان محمد قد جاء بكتاب تضمن (الحق كله) ولخصه: الحق الذي جاء به الأنبياء والمرسلون جميعا. وأظهره وأجله: (توحيد الله) و(أصول الأخلاق).

3 ـ وإذا كان محمد قد جاء بدين عظّم الأنبياء والمرسلين جميعا ـ الذين أشرقت بهم الحياة قبل محمد ـ، عظمهم وقدمهم في أبهى صورة باعثة على محبتهم وإجلالهم والاقتداء بهم والإيمان بهم.

4 ـ وإذا كان محمد قد جاء بدين أعلن الكرامة العامة للإنسان ـ من حيث هو إنسان ـ، كما أعلن مسؤولية الإنسان العينية ـ عن عمله وسلوكه ـ في الدنيا والآخرة، إذ لا ينوب والد عن ولده ـ ولا العكس ـ، ولا ينوب زوج عن زوجه ـ ولا العكس ـ ولا ينوب رئيس عن مرؤوسه ـ ولا العكس ـ في هذه المسؤولية العينية أو الذاتية.

5 ـ وإذا كان محمد قد جاء بدين أعلن (وحدة الجنس البشري) في الأصل والنشأة، وقرر ـ في الوقت ذاته ـ تنوع البشر وتعددهم في الألسنة والألوان والأقوام والشعوب والقبائل والمناهج والشرائع.

6 ـ وإذا كان محمد قد جاء بدين نفى مقياس العنصرية الجينية أو البيلوجية في التفاضل بين الناس، وأثبت البديل الموضوعي الأرقى وهو مقياس التفاضل بين البشر على أسس: العلم الصحيح، والاعتقاد الحق، والعمل الصالح، والخلق الرفيع (وهذا ميدان فسيح للناس جميعا: الأحمر والأبيض والأسود والأصفر) الخ.

7 ـ وإذا كان محمد الذي عرف ربه وأحبه وعبده: في تلك الصورة التي تناهت في السمو، والذي بلغ الكمال في التعامل الخلقي اللطيف مع الناس والطير والجماد والزمان والمكان، والذي نقل أمة كاملة: من التحجر والظلام الى التفكير المبدع، والنور الغامر في أقصر مدة تاريخية شهدتها حضارات النوع الإنساني.

8 ـ وإذا كان محمد قد قاد أعظم (نهضة تنوير شاملة في التاريخ البشري والحضارة الإنسانية): بشهادة علماء ومفكرين وزعماء سياسيين (غير مسلمين) منهم ـ مثلا: المؤرخ البريطاني: ارنولد توينبي، وكذلك المؤرخ الشهير هربرت ولز، والمؤرخ الأمريكي الاستراتيجي بول كندي، والعالم الموسوعي الارلندي: جون ديزموند برنال، والزعيم السياسي جواهر لال نهرو.. وملخص هذه الشهادة المعرفية التاريخية الحضارية هو: انه قبل بعثة النبي محمد كان العالم كله ملفوفا في الظلام. وكان الناس يتعاملون مع الكون بحشد لا آخر له من المخاوف والأساطير والأوهام، وكان يخشون انهم لو فشلوا في ممارسة السحر والطقوس والترانيم الوثنية في اتصالهم بالكون: سيباغتون بانقلاب كوني في نظام الطبيعة كله، انقلاب تحدثه الشياطين والكهنة والسحرة!!..

ومن تمام شهادة هؤلاء: انه ببعثة النبي محمد تحرر العقل البشري من اغلال الخرافة والتخلف، إذ حض القرآن العقل البشري وأورثه (الجرأة) على التعامل مع الكون بنظر سديد، وفكر كشاف، وممارسة مباشرة وفاعلة. ومن هنا انطلقت نهضة التنوير الكبرى التي أثمرت المعارف العلمية والتكنولوجية وهي ثمرات كانت الأساس الذي أنبنت عليه النهضة الأوربية الحديثة.. يقول بول كندي في كتابه (نشوء القوى العظمى وسقوطها)..:«إن قسطا كبيرا من الموروث الثقافي والعلمي الأوربي هو في حقيقة الأمر (استعارة) من الاسلام والمسلمين».

إذا كان محمد قد فعل ذلك كله من عند نفسه ـ بلا وحي ولا اصطفاء إلهي ـ (كما يزعم الجاهلون أو الحاقدون)، فإن هذا الزعم يفتح الباب للعقول بأن محمدا كان (أعظم من نبي)!!.. بمعنى انه فعل ما لم يستطعه الأنبياء المرسلون قبله، صلى الله عليهم جميعا وسلم. ولكن يمنع من التلفظ بهذه العبارة: المنهج الذي جاء به النبي محمد. فكلمة (أعظم من نبي) ترفعه فوق مرتبة صفوة البشر وهم الأنبياء البشر وليس فوق هذا المقام إلا مقام الالوهية، ولذا فهو قول واضح البطلان.. والبرهان على ذلك من المنهج نفسه الذي يوكد على بشرية الرسول من خلال التوكيد على نبوته، ففي القرآن «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي».. وفي السنّة الصحيحة قول النبي ذاته:«أيها الناس، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي إنما أنا عبد».. والحجة الغالبة ـ ها هنا ـ هي أن هذه المعارف المنهجية هي ذاتها براهين ساطعة قاطعة على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.