هل تحسمها الكرة ؟

TT

هو «هراكيري سياسي» لا أكثر ولا أقل، ومغامرة ستكون مكلفة للرئيس التركي عبد الله غل، ونظيره الأرمني سيرج سركيسيان، اللذين قررا إعطاء الحوار والتفاوض وإمكانية فتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين فرصة قد لا تعوض رغم كل الانتقادات والهجمات وحملات الاستنكار الواسعة التي يتعرضان لها داخل بلديهما .

لغة الاعتدال والانفتاح التي بدأت تنتشر وتعم أوساط المثقفين ورجال الاعمال، الأرمن والاتراك على السواء، في السنوات الاخيرة، والمطالبة بقراءة أكثر واقعية وبراغماتية لملف عمره اكثر من قرن كامل تعتمد فيه سياسة «اللاحل هو أفضل الحلول» أبعدت الشعبين عن بعضهما البعض رغم كل ما يجمعهما من وحدة في الارض والجغرافيا والتاريخ والثقافة بدأت تعطي نتائجها على ما يبدو.

قرار الرئيس التركي عبد الله غل التوجه الى العاصمة الأرمينية، يريفان، للجلوس جنبا الى جنب مع الرئيس الارمني لمتابعة وقائع مباراة كرة القدم بين منتخبي البلدين في اطار تصفيات بطولة كأس العالم لا يقل شجاعة عن قرار نظيره الأرمني بتوجيه مثل هذه الدعوة إليه أملا بإزالة الغصة التاريخية والانطلاق في مسار علاقات ثنائية جديدة تفرضها الظروف الاقليمية المحيطة وفي مقدمتها الحرب في القوقاز طبعا. زيارة تحطيم جدار الخوف وعقدة الانتقام هذه تضع الكثيرين أمام تقاطع طرق لا مفر منه : أما المضي في حملات المقاطعة والانغلاق ورفع شعار العداء والخصومة الدائمة أو إعطاء السلام والانفتاح وإزالة حالة الغبن فرصة أخرى قد لا تعوض بحسب الكثير من المراقبين والمتابعين لملف العلاقات التركية ـ الارمنية.

حظ المنتخب الأرميني بالفوز في هذه المباراة قد يكون ضئيلا جدا لكن الفوز الحقيقي هو انجاز اتفاق سياسي بين الرئيسين على تحريك الملفات المجمدة ورفع الغبار عن وثائق قديمة مرفوعة على الرفوف تمهيدا لفتحها مرة اخرى تكون نهائية وحاسمة نحو بناء نظام علاقات ثنائية جديدة يفتح الحدود والقلوب خصوصا أن تركيا تعترف بأرمينيا لكنها لا تقيم معها علاقات دبلوماسية بسبب أزمة قره باغ والحرب الأرمينية ـ الاذرية .

لقاء غل وسركسيان يأتي بعد أكثر من محاولة اقليمية ودولية في السر والعلن لمصالحة البلدين، ويعني أن ما يجري أهم وأكبر من أن يكون مجرد دعوة لمشاهدة هذه المباراة، فالهدف الأول سيكون الانتقال بأسرع ما يمكن الى طاولة المفاوضات وطرح البدائل والخيارات العملية الكفيلة بإنهاء هذه الخصومة، فنحن نعرف أن مئات الكيلومترات من الحدود المشتركة المغلقة منذ عام 1993 حرمت الدولتين من أهم وأكبر فرص التعاون الاقتصادي والانمائي والثقافي. ويكفي هنا الإصغاء الى كبير الكنيسة الارمنية في اسطنبول البطريرك ميسروب موتافيان الذي يكرر بأعلى صوته «جميعنا في سفينة واحدة ان تسربت اليها المياه فكلنا عرضة للغرق». وللرجوع الى ما كتبه الصحافي الارمني هرانت دينك، الذي سقط ضحية افكاره في الدفاع عن الحوار والتقارب التركي ـ الارمني، لنتعرف الى حجم رغبة أرمن الداخل التركي في أن يضع هذا اللقاء حجر بناء صرح جديد من المحبة والالفة على الحدود التركية ـ الارمينية.

في الوقت الذي سنرى فيه فاتح تريم، مدرب المنتخب التركي، منهمكا بوضع خطط الهجوم والتصدي في ساحة الملعب، مطالبا بأن «لا يحملنا احدا عبء التاريخ كله على اكتافنا». سيكون غل وسركسيان منهمكين بطرح ومناقشة سبل عدم إهدار مثل هذه الفرص خصوصا أن المعارضين في أنقرة وصفوا ما يجري بالإهانة التاريخية في حين أن المتشددين الارمن أعلنوا أنهم لن يقفوا على الحياد خلال الزيارة وسيكونون بانتظار غل في يريفان وللاتراك تجارب مماثلة كان آخرها اضرام النار بالأعلام التركية في مناطق النفوذ الارمني في بيروت استنكارا لمشاركة تركيا في قوات السلام الدولية العاملة في جنوب لبنان.

هي خطوة تستحق المغامرة في جميع الاحوال، فالاتراك قالوا دائما إن اليد الممدودة نحو السلم لن تظل طويلا تنتظر في الهواء، ويكفي هنا أن تقرر القيادات في البلدين مثلا الانحناء معا أمام أرواح الضحايا الذين سقطوا من الجانبين، وأنها جاهزة للحوار بقلب مفتوح ونية صادقة ورغبة في فتح هذا الملف وإغلاقه مرة أخيرة والى الأبد لنرى رافعي شعار السلام والتقارب بين العاصمتين يتسابقون لوضع كافة طاقاتهم في سبيل إنجاح هذه البادرة .

الكرة هي اليوم في وسط ملعب «رازدان» الذي يتسع لاكثر من 50 الف متفرج سيحضرون لتشجيع رياضييهم وهم يعرفون تماما أن للذهاب إياباً وكل علم تركي يحرق في يريفان سيقابله الرد المناسب في اسطنبول، وكل علم تركي يلوح به جنبا الى جنب مع العلم الأرميني سيلزم الاتراك بالمثل، فليكن الخيار في ارمينيا نحو استغلال المناسبة لإعطاء حكومة العدالة والتنمية الفرصة التي تريدها منذ سنوات.. تشجيع ارمني ورغبة صادقة في تحطيم الحواجز وازالة الالغام المزروعة منذ عشرات السنين على طريق يريفان ـ اسطنبول.

* كاتب وأكاديمي تركي