خلافات تنذر بالخطر داخل مؤسسات السلطة الفلسطينية

TT

أصبحت الحالة الفلسطينية تنذر بالخطر. ثمة خلافات تكبر وتتسع. الخلافات ليست بين مؤيدي نهج سياسي وبين المعارضين له، ليست بين حركتي فتح وحماس. الخلافات هذه المرة داخل المؤسسة، وبين أصحاب الخط السياسي نفسه. خلافات تصل لأول مرة، إلى حد الانتقاد المباشر للرئاسة الفلسطينية من قبل أتباعها. خلافات حول الهدف السياسي، وحول كيفية إدارة منظمة التحرير الفلسطينية، وحول الحوار الوطني وشروطه.

ينبع الخلاف من الفشل السياسي، ومن فشل المفاوضات مع إسرائيل، ومن مواقف تنبئ باستعداد للتنازل عن مسلمات فلسطينية تتعلق بحق العودة ورفض التوطين، ويلي ذلك خلافات تنظيمية بين أنصار النهج الواحد. ولهذا كله نقول إن الحالة تنذر بالخطر. وتتداخل الخلافات مع بعضها بعضا، ولكننا سنحاول هنا أن نصنفها من أجل الفهم والتوضيح فقط .

أولا: أصبح هناك خلاف حول المستقبل، حول الهدف السياسي من التفاوض القائم، ويتصدى لهذا الخلاف المتفاوضون أنفسهم. الرئيس محمود عباس يؤكد ويكرر أن الهدف هو إنشاء دولة فلسطينية في حدود العام 1967 وعاصمتها القدس. ولكن أحمد قريع (أبو علاء) الذي يقود طاقم التفاوض لم يعد يؤمن بأن هذا الهدف قابل للتحقيق، وهو أدلى مؤخرا بتصريحين لافتين: دعا في التصريح الأول إلى البحث في احتمال (دولة واحدة لشعبين)، بدلا من هدف الدولتين. ودعا في التصريح الثاني إلى البحث في إعلان قيام الدولة الفلسطينية من طرف واحد، ومن خارج عملية التفاوض.

وقد خرج الخلاف حول هذا الأمر من نطاق التصريحات إلى نطاق البحث المؤسساتي، فقد جرى تنظيم لقاء في لندن لشخصيات فلسطينية بارزة، أشرفت عليه «مجموعة أكسفورد للأبحاث»، وحمل اللقاء اسم «الفريق الفلسطيني للدراسة الاستراتيجية»، وأسفر عن وثيقة تطالب القيادة الفلسطينية بتبني بدائل جديدة للمفاوضات، ولخيار الدولتين، واستبداله بخيار دولة واحدة لشعبين. وانتهى أيضا إلى المطالبة «بإعادة تشكيل السلطة الفلسطينية بحيث لا تخدم مصالح إسرائيل».

ومن الطبيعي حين يبرز خلاف حول الهدف السياسي المركزي، أن يكون لهذا الخلاف صداه في الأجهزة الشرعية الأساسية، مثل المجلس الوطني الفلسطيني، ومثل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. وقد حدثت في هذا الإطار خلافات جديدة حادة تستدعي التوقف أمامها.

قبل حوالي شهرين، وجهت الرئاسة الفلسطينية رسالة إلى سليم الزعنون (أبو الأديب) رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، تطلب منه تعديل المادة 14 من النظام الأساسي لمنظمة التحرير، بحيث يمكن توجيه الدعوة لانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله، وبعدد محدود من الأعضاء، وذلك من أجل ملء الفراغ في عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة (الثلث متوفى أو مستقيل). وقد اجتمعت اللجنة القانونية في المجلس الوطني وبحثت بالأمر، وردت على طلب الرئاسة بمذكرة توضح أن هذا الطلب مخالف للقانون. ونشبت على أثر ذلك أزمة بين رئاسة السلطة وبين رئاسة المجلس.

في ظل هذه الأزمة، دعا سليم الزعنون أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني المتواجدين في الأردن إلى لقاءين تشاوريين، قيل فيهما كلام صريح جدا، وكلام خطير للغاية، ومن قبل أشخاص مساندين للسلطة الفلسطينية، ولهم مراكز بارزة فيها.

انعقد اللقاء التشاوري الأول يوم 22/8/2008 في عمان، وفيه قال سليم الزعنون رئيس المجلس: البعض يعمل على عقد جلسة غير شرعية للمجلس الوطني في رام الله، وقد حذرناهم من أن عقد مثل هذه الدورة بموجب تحريف المادة 14 من النظام الأساسي، يفتح الباب أمام انتقادات.. وقال: لو دعوت المجلس الوطني للانعقاد، فإنه بحكم الأوضاع الحالية في غزة التي تحول دون مجيء أعضاء المجلس من هناك إلى رام الله، وكذلك رفض إسرائيل السماح بدخول أعضاء المجلس في الخارج، يعني أن يحضر فقط ما بين 200 إلى 300 عضو من أصل 740 عضوا، وهذا يعني انهيار مؤسسة المجلس الوطني.

وتحدث في اللقاء أيضا الدكتور أسعد عبد الرحمن وهو عضو لجنة تنفيذية (مستقل)، فوسع من دائرة النقد ليشمل الحكومة الفلسطينية، قال: هناك محاولة ليس فقط لتجاوز منظمة التحرير، وإنما لخطف اللجنة التنفيذية، ولخطف القرار الفلسطيني ليتم تركيزه بيد الحكومة.

وتحدث في اللقاء عزام الأحمد، رئيس كتلة حركة فتح في المجلس التشريعي المنتخب، وقال: لم يعد مطلوبا شطب منظمة التحرير، وإنما صياغة سلطة فلسطينية على المقاس الأميركي، وصناعة فتح ومنظمة التحرير على المقاس الأميركي. وقال: هناك فيتو أميركي على الحوار الوطني الفلسطيني.

وفي اللقاء التشاوري الثاني الذي انعقد في عمان بتاريخ 1/9/2008، تحدث تيسير قبعة نائب رئيس المجلس الوطني (من الجبهة الشعبية)، وشن هجوما متعدد الاتجاهات، وقال: إن جهات فلسطينية تتآمر من أجل تصفية القضية الفلسطينية إلى جانب إسرائيل وأميركا. وتساءل: كيف أقابل عدوي وأنا أعطيه أسماء المناضلين؟، كيف أقاوم العدو وأنا أنسق معه أكثر مما أنسق مع شعبي؟ وقال: لا أريد أن أتحدث عن الجرائم التي ترتكب في الصندوق القومي الفلسطيني، حيث يتم إحالة شباب في الأربعينات على التقاعد، بسبب مواقفهم السياسية المناهضة لما يجري. وختم قائلا: لن نسمح باللعب بالمجلس الوطني الفلسطيني، ولن نوافق على عقده في ظل أولمرت.

بعد هذا الخلاف الحاد داخل مؤسسة المجلس الوطني الفلسطيني، برز خلاف حاد آخر حول تصريحات أدلى بها الرئيس محمود عباس حول موضوعي الوحدة والتوطين (تلفزيون العربية 28/8/2008)، وقال فيها إن موضوع العودة الذي نبحثه مع إسرائيل لا يتناول عودة اللاجئين الفلسطينيين جميعا، بل يتعلق بعودة عدد محدود يجري التفاوض حوله. وعن التوطين قال: أي فلسطيني ينتمي لدولة فلسطين، وعندما ينتمي لا يصبح لاجئا، بل مواطن دولة أجنبية، سواء في لبنان أو في أي مكان آخر، وهنا يكون هاجس التوطين قد انتهى. وفهم من هذه التصريحات أنها تلغي البحث المبدئي بحق العودة، ويتختصره بعودة عدد محدود، تضعه إسرائيل في إطار إنساني تحت بند لم الشمل. كما فهم من هذه التصريحات أن عودة اللاجئين ستكون إلى الدولة الفلسطينية فقط، وهنا يبقون في الدول العربية وفي المهاجر، ولكن يحملون بعد ذلك صفة مواطنين لدولة فلسطين وليس صفة لاجئين، ويشكل هذا حلا لمشكلة التوطين.

وقد أثارت هذه التصريحات قلقا واسعا في الأوساط الشعبية الفلسطينية، واستدعت صدور مواقف سياسية منددة، وبيانات شعبية رافضة. وزاد كل ذلك في حدة الجدل الدائر حول المفاوضات مع إسرائيل، كما زاد في حدة المخاوف مما يسمى اتفاق التفاهم، أو اتفاق الرف، الذي تسعى إليه وزيرة الخارجية الأميركية.

والآن.. حين نلقي نظرة شاملة على هذه القضايا كلها، وعلى المواقف التي عبر عنها أصحابها، لا نكون مبالغين أبدا عندما نقول إن الحالة الفلسطينية أصبحت تنذر بالخطر، وأنها مؤهلة لأن تقود إلى الفوضى، وربما إلى الانهيار.

لقد كانت هناك دائما خلافات سياسية فلسطينية، ولكن كان هناك دائما أغلبية وأقلية في إطار المؤسسات التشريعية، تعطي للموقف الفلسطيني الرسمي غطاء وطنيا وشرعيا. أما الآن.. فإن الخلاف يدب داخل المؤسسة التشريعية نفسها، وإذا تواصل هذا الخلاف، فإن الموقف السياسي الفلسطيني يصبح من دون غطاء شرعي، ويصبح عاجزا عن الدفاع عن نفسه، وهنا يبدأ الانهيار. لم يحدث من قبل أن المجلس الوطني الفلسطيني ابتعد إلى هذا الحد عن السلطة الفلسطينية وأدائها، أو نأى بنفسه عن أداء اللجنة التنفيذية وتبرأ منه. وحين يحدث مثل هذا الأمر، فإن وصفه الوحيد هو التصدع. تصدع بنية المؤسسات، والانفتاح على المجهول.