جيل الطفل الوحيد

TT

يقول المثل: اللي يعيش ياما يشوف. وقد عشت لأرى جيلا من الشباب يجهر بأنه يرفض الزواج والإنجاب خوفا على الأولاد من عالم ينهشه الفقر والحروب والفيضانات والزلازل والأمراض المستعصية. وقد عشت لأرى أن من يتقبل فكرة الإنجاب يتمنى ألا ينجب أكثر من طفل واحد تفضيلا لتكريس كل إمكانياته المادية والعاطفية لتربيته والتكفل بتعليمه في المدارس الخاصة عالية التكاليف. وان دل هذا على شيء انما يدل على تراجع قوة الإيمان بالله.

قبل ثلاثين عاما اصدر الزعيم الصيني ماوتسي تونج قانونا يمنع الاسر الصينية من انجاب اكثر من طفل واحد. وكان هدف هذا القانون الغريب هو الحد من زيادة السكان المطردة ومنح فرصة للاسرة الصينية لتنشئة جيل متميز واعداده لمكانة عالية تكفل للصين مكانة بين الدول العظمى.

فهل نجح ماوتسي تونج؟ قرأت اليوم تقريرا يقول بأن جيل الطفل الوحيد في الصين جرفته حمى التنافس والتفوق إلى أبعاد خطرة، ثم جرفته موجة التحديث الذي طرأ على المجتمع الصيني مؤخرا بانفتاح اقتصادي سريع وثروات متعاظمة، ربما اسرع مما يمكن ان يستوعبه مجتمع خرج من نظام اشتراكي صارم استمر طويلا.

يقول التقرير إن الجامعات الصينية تخرج 4 ملايين سنوياً. ولكن فرص العمل التي تتناسب مع قدرات حملة الشهادات الجامعية من المتفوقين لا تزيد على مليون وستمائة فرصة عمل. ومعنى ذلك أن ملايين الشباب الذين دفعهم طموح الآباء وتضحياتهم يشعرون بخذلان شديد حين يضطر الواحد منهم ان يقبل وظيفة لا تتناسب مع مؤهلاته العلمية. ويقول التقرير ايضا ان هؤلاء لا يجدون بعض العزاء في العاب الكومبيوتر وفي وسائل الرفاهية الأخرى التي كفلتها الثروة الجديدة. بيد ان كل تلك المغريات لا تحول بين بعضهم وبين الرغبة في تدمير الذات. فقد ازدادت حوادث الانتحار بين الشباب الى درجة ازعجت السلطات.

مشكلة الطفل الوحيد ليست مشكلة خاصة بالمجتمع الصيني. ولكنها درس يمكن ان يستفاد منه. فالوالد الذي يكرس امكانياته لتلبية احتياجات ولد وحيد، يلازمه كظله ويدفعه دفعا نحو التميز والتفوق بأي ثمن يخرج إلى الدنيا إنسانا منقوص العافية النفسية التي تعين كلاً منا على اقتسام قطعة حلوى مع طفل آخر، او المشاركة في لعبة جماعية او الفرح لفرح الآخرين والحزن لحزنهم. حين يصطدم الطفل الوحيد بواقع يأبى أن يحقق له كل ما يتمنى تحبط توقعاته ويتملكه يأس واحساس بالظلم والغضب. ثم ان قانون النسبة والتناسب يأبي ان يصبح كل طفل وحيد نجما يشار اليه بالبنان.

في مطلع شبابي تمنيت ان اكون أما لعدة أبناء وبنات، ولكني رزقت بطفلة واحدة. وقد لا أكون نجحت في تحصين نفسي وتحصينها تماما من سلبيات ظاهرة الطفل الوحيد. فأنا اعترف أنني أم إذا شكت ابنتها من صداع في الرأس أصابها الفزع وانتابتها الوساوس من أن يكون الصداع عرضا خطيرا يستوجب استشارة نصف دستة اطباء. ولكن بما أنني كنت واحدة من خمسة اخوان واخوات نجحت في اقناعها بأن أي عمل متقن هو قيمة مستقلة ترتد إلى صاحبها بالزهو والثقة، وان الرفاهية ليست بالضرورة قرينا للسعادة وانما السعادة حالة وجودية تغمرك اذا شعرت بأن عندك ما يكفيك وبأنك موصول ومحبوب ومرتاح الضمير.