تميم «يا فندم!»

TT

جاءتكم من السماء، لم يعد هناك داع لتحمل الفن الهابط مسؤولية فشل أي من مسلسلات رمضان هذا العام، فحياة العرب اليوم أكثر تسلية، وتلفزيون الواقع أكثر إثارة. المسلسل الجديد «مقتل فنانة في دبي»، فيه من الحبكة والدراما والقصص الجانبية الداعمة ما هو أكثر إثارة من أي شيء قدمته الدراما المصرية أو السورية، تلك كانت قصص من خيال الكاتب وإبداع المخرج. المسلسل الجديد فيه كل عناصر التشويق: رجل أعمال ملياردير، وعضو برلمان، يستأجر قاتلا بدافع الحب أو الغيرة معا، بطل تراجيدي ولا عطيل (أوثلو) في مسرحية شكسبير. المال والسياسة والفن، خلطة سحرية تنجح الكثير من المسلسلات الرمضانية أيضا. في مسلسل «مقتل فنانة في دبي»، يقوم بعملية القتل خارج الحدود، حدود البلد وحدود الأدب وحدود القانون، ضابط أمن دولة سابق، لم يكن القتل مجرد خبطة سريعة و(خلصنا)، بل كان عبارة عن مسلسل طويل من ملاحقات ومطاردات ومراقبة في لندن وبيروت والقاهرة، أي أن مساحة حركة الممثلين في هذا الملعب شملت الشرق والغرب، وهي أقرب إلى مسرح عمليات الحرب العالمية الثانية من حيث المساحة الجغرافية.. ولو قام المخرج السوري نجدت أنزور بتنفيذ دراما كهذه لكلفته أكثر من مليوني دولار، المبلغ الذي يفترض أنه دفع للقاتل في دبي. فهذا المسلسل الذي نشاهده بتكلفة مليوني دولار فقط، هو مسلسل رخيص، بل ورخيص جدا، ولكنه بلا شك أكثر إثارة وتشويقا.

أبطال المسلسل جاءوا من عدة جنسيات عربية، مصري وعراقي ولبناني.. وهي مناطق قلق وصراع في الفن والسياسة في العالم العربي، حزام المشاعر الملتهبة في جغرافيا العواطف العربية. وحسب المسلسل المعروض اليوم، للفنانة أكثر من زوج في لبنان وعشيق من العراق وآخر من مصر، وتختلط الخيوط وتتقاطع، وتبقى دبي مكان مسرح الجريمة. في دبي يختلط الفن بالواقع، فمن يعرف دبي، يرى في حياة هذه المدينة دائما ما هو أكثر دهشة من الخيال، شركات انتاج الدراما في دبي تحاول أن تقدم أفلاما أقل واقعية من واقع المدينة. الأمن في دبي كان فعالا وصارما في هذه القضية، ولكن الخشية الحقيقية أن تفلت زمام الأمور في هذه المدينة المنفتحة على العالم بلا حساب، والخشية الخشية هي أن تصبح دبي عاصمة الجريمة المثيرة لمقتل فنانة مرة، ورجل أعمال مرة أخرى، أشياء أقرب إلى نسخة مصرع ديانا ودودي الفايد، أي أن تصبح دبي باريس الشرق، من حيث الإثارة لا الثقافة. المؤشر يتجه إلى هنا، وفي ذلك مادة لتلفزيون الواقع الذي سيكون أكثر إسالة للعاب المشاهدين في رمضان وغير رمضان، وبذا لن تكون المادة الأكثر تشويقا على شاشة دبي، وإنما في دبي.

في هذا المسلسل، تجتمع المفارقات وتتصاعد الأحداث لتنتهي بقتل الفنانة في شقتها في دبي. مكالمات سجلها الضابط المأجور لإثبات تورط رجل الأعمال، ينفيها وينفي أنها صوته، وصحف تنشر نص المكالمة التليفونية، ولا يبقى عندك سوى أن تتخيل صوت عادل أدهم في حديث إلى توفيق الدقن:

«أنا خلصت لك كل حاجة.. والمبلغ جاهز.. هي موجودة في لندن.. دا أنت راجل أمن دولة.. إن شاء الله.. كل حاجة تمام.. (تميم يا فندم!). أو هكذا يتخيل المخرج شكل المكالمة، ولكن ليس لدينا بين ممثلينا اليوم لا عادل أدهم ولا توفيق الدقن، لدينا محمد هنيدي.

كيف أصبحت قصص واقعنا أشد غرابة من الخيال؟ وهل تفسخت مجتمعاتنا حتى وصلت هذا الحد المخيف من القتل المأجور؟ هناك حالات جريمة فردية في أكثر المجتمعات رقيا، حالات قد تبلغ من القسوة مبلغا تقشعر له الأبدان. ولكن مثل هذه الجرائم التي تهز ضمير المجتمع، لا تمر من دون أن تستوقف الباحثين والدارسين الاجتماعيين لدراستها وفهمها كمقدمة لتجنيب المجتمع، إن أمكن، حدوث مماثلات لها. وعندما يكون أحد نجوم المجتمع هو المتورط في هذه الجريمة، عندها تقع الفضيحة التي لا يرتوي ظمأ الناس وفضولهم إلى معرفة كل تفاصيلها. ويبدأ النقد الجاد من قبل الأخصائيين الاجتماعيين، فنجوم المجتمع غالبا ما يكونون نموذجا للناشئة يرغبون في تقليدهم والمشي على هديهم لعلهم يحظون مثلهم بالشهرة والمال والجاه. رجل الأعمال المصري المتهم في مسلسل الواقع الذي يشاهده العرب اليوم هو، بلا شك، أحد نجوم المجتمع المخملي في مصر، وكثير من الشباب المصري، بلا شك أيضا، يحلم بأن تعطيه الدنيا من واسعها كما أعطت صاحبنا. فهل ملابسات هذه الجريمة ـ الفضيحة، دقت أجراس إنذار الأمن الاجتماعي والأخلاقي لمجتمعات ظلت مطمئنة زمنا طويلا إلى أن «الدنيا لسه بخير» وكأنها محصنة ضد الأزمات الأخلاقية؟

في مجتمعاتنا اليوم أعراض أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، نقلة من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات صناعية، ظهور الثروة الجديدة والتي ظهرت المافيا معها. الجماعات المتطرفة عندنا، إسلامية أو غير إسلامية، هي مافيا أوروبا في أوائل القرن، ولا داعي للبحث في إيديولوجيتها. أسامة بن لادن ومن على شاكلته هم عصابات المسلمين في هذا الزمان، أغنياؤنا أيضا على درب مسار التاريخ الأوروبي سائرون، مال وأعمال وجنس وشهوات لا تنطفئ. إنها البداية وليست النهاية في سلسلة الجرائم التى سنراها في مدننا. في الأردن وفي صعيد مصر مثلا، نلوم مجتمعات كاملة على تحجرها وانسياقها وراء عرف متخلف يؤدي إلى ما تعارفنا عليه بـ«جرائم الشرف»، تحدثنا عن ذلك كثيرا وأدناه، انتقدنا جرائم «الشرف» هذه، ويجب أن تكون لدينا الجرأة ذاتها لانتقاد جرائم «عدم الشرف».

ظهرت الثروة في المجتمعات العربية من دون تراكم قيمي أو أخلاقي، لذا فهي أقرب إلى الجريمة منها إلى الجهد الشخصي. المفكر والسوسيولجي العظيم ماكس فيبر رأى أن الرأسمالية هي نتاج الأخلاق البروتستانتية، وإن ما نراه في أوروبا والولايات المتحدة اليوم هو نتيجة طبيعية لارتباط أخلاق مجتمع ما بقيمة العمل وتراكم الأخلاق والثروة معا. عندنا بدأت تظهر علامات تراكم الثروة، لكنها لم تكن أبدا مصحوبة بتراكم أخلاقي، لا نقد لا اعتراض، فقط نقول «تميم يا فندم»!.