«إنه الاقتصاد يا غبي».. إلى حد ما!

TT

في عز نشوة «حرب تحرير الكويت» التي نجح خلالها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش «الأب» في بناء تحالف دولي واسع دعم موقف الولايات المتحدة، اختار بيل كلينتون، حاكم ولاية أركنسو السابق رفع شعار «إنه الاقتصاد يا غبي» والسير على أساسه.

وفي مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 1992، كسب كلينتون رهانه ضد «بطل تحرير الكويت» و«باني التحالف الدولي العريض» وأحد أبطال حسم الحرب الباردة ضد الكتلة الشرقية المتداعية. فيومذاك تناسى الأميركيون ذكريات الحرب الباردة وهالة انتصار الكويت.. وتذكّروا عجز الميزانية.

في الدول الديمقراطية الناضجة، كما كان يقال لنا وكما اكتشفنا لاحقاً، يقترع الناس وفق أهواء جيوبهم لا نوازع عصبياتهم العشائرية والدينية.

وفي أميركا نجح بيل كلينتون في الاحتفاظ بالبيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية، ولكن ليس من دون منغّصات خلقها له الجمهوريون... وساهم سوء تصرفه أحياناً في خلقها لنفسه. وبصرف النظر عن الفضائح المسلكية، كفضيحة مونيكا لوينسكي، سدّد الجمهوريون تحت قيادة نيوت غينغريتش ـ رئيس مجلس النواب (1995 – 1999) ـ ضربات موجعة لسياسات كلينتون الاقتصادية، وصلت في ظل هيمنتهم على الكونغرس إلى حد إجبار رئيس ديمقراطي على التخلي عن مبادئ «الصفقة الجديدة» التي بنت أسس دولة التضامن الاجتماعي والضمانات في عهد فرانكلن روزفلت. ومن درس التاريخ الأميركي المعاصر يعرف أن هذه «الصفقة» تعد، بجانب إقرار «شرعة الحقوق المدنية» (في عهدي جون كنيدي ـ ليندون جونسون)، أهم المنجزات التي رسخت مكانة الحزب الديمقراطي ملاذاً طبيعياً للطبقة الشعبية والأقليات العرقية والدينية والتيارات الليبرالية واليسارية في البلاد.

كذلك سخر الجمهوريون من سياسة «بناء الدول» Nation Building التي اعتمدها كلينتون وفريقه بعد زوال مفعول «علاج الصدمة» في شرق أوروبا، وتفاقم التناقضات داخل الكيانات الناشئة من ركام كيانات بعض دول الكتلة الشرقية ولا سيما في البلقان.

وبطبيعة الحال، ظل «إنجيل» الجمهوريين اليمينيين واقتصادييهم «النقديين» Monitarists خفض الضرائب وتقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية وتعزيز القطاع الخاص بأقل قدر ممكن من الضوابط والمعايير. والبديهي أنه في مجتمع بحبوحة وفرص وطموح مادي لا يحد، كالمجتمع الأميركي، تكون مغريات الإثراء السريع ضخمة جداً، وباب المضاربة في غياب الرقابة والضوابط مفتوح. وإذا ما تذكّرنا أن الاقتصاد الأميركي اعتاد عبر العقود على الهروب إلى الأمام من آفة عجز الميزانية، وتجاهل طويلاً أزمة «التنافسية» مع القوى الاقتصادية الناهضة في العالم والعلاقة المباشرة بين الأجور والتكلفة.. لم يستغرب العقلاء أن تنفجر الفقاعة ويهتز الاقتصاد.

اليوم، بعد ثماني سنوات من المغامرات السياسية والعسكرية المكلفة، والتنكر شبه الكامل لممارسة الدولة مسؤولياتها الاقتصادية، عادت عقارب الساعة إلى الوراء. وكما نجح الابتزاز الجمهوري للديمقراطيين بـ«سلاح» خفض الضرائب الذي أجبر كلينتون على إسقاط «الصفقة الجديدة».. أدت الانهيارات الاقتصادية إلى إجبار إدارة جمهورية يمينية طالما آمنت بقدرة السوق على ضبط أموره تلقائياً إلى التدخل إما لشراء كبريات المؤسّسات المالية أو إقراضها أو إسنادها بشروط قاسية لدرء انهيار اقتصادي مالي عمومي.

حتى هذه اللحظة، اقتصر «التدخل الحكومي» الأميركي على المؤسسات المالية والتسليفية والتأمينية الضخمة مثل «فاني ماي» و«فريدي ماك» و«آيه آي جي»، لكن لا أحد مستعد للرهان على استبعاد اضطرارها إلى التدخل لإنقاذ شركات صناعية في المستقبل القريب.

آيديولوجياً، ثمة صدمة كبرى.. ووعي لواقع جديد ـ قديم. أكثر من هذا، ليس ثمة دولة «محصّنة» ضد تداعيات انهيارات مالية واقتصادية بهذا الحجم.. لأننا، بكل بساطة، نعيش حالة «عولمة» اقتصادية شاملة.

وبالأمس، كنت استمع إلى برنامج حواري إذاعي بريطاني شارك فيه ساسة من الأحزاب الرئيسة الثلاثة ومعهم خبيرة ومستشارة اقتصادية بارزة. ولدى طرح أحد المواطنين سؤالاً عمّن يتحمل المسؤولية في الأزمة الحادة الراهنة، أجابت الخبيرة أن المسؤولية يجب أن توزع على مجموعة من الأطراف: أولها المواطن نفسه الذي في تعجّله الثراء جرى إلى الاستثمار في أي مؤسسة وعدته وتعِده بربح سريع، وثانيها المؤسسات المالية التي ضاربت وغامرت من دون تبصّر، وثالثها الهيئات الرّقابية التي قصّرت في واجب الرّقابة رغم مؤشرات الخطر، ورابعها الحكومة التي إما تردّدت أو تباطأت في اتخاذ الإجراءات الحاسمة رغم إدراكها أنها لا تمسك بكل الخيوط. أما أحد الساسة فنبّه إلى أن أخطر ما في الأزمة الراهنة أنها تحصل «عالمياً»، وبالتالي، فإنها لن تلجم بالضرورة بتدابير محليّة بحتة.

عودة إلى المشهد الأميركي الذي يعيش هذه الأيام العد التنازلي لانتخابات نوفمبر الموعودة. المفروض أن تضمن الأوضاع الاقتصادية المخيفة فوزاً مريحاً للمرشح الديمقراطي باراك أوباما.

نظرياً، على الأقل، هذا ما يجب أن يحدث. فالمواطن الأميركي قلق على مدخّراته ووظائفه واستثماراته، وفكرة الأرباح السريعة «مجاناً» يجب أن تكون قد اهتزّت.. ولكن لماذا تعطي استطلاعات الرأي حتى الآن أوباما ومنافسه الجمهوري جون ماكين أرقام تأييد متقاربة؟

اللون أو العنصرية، حتماً، سبب جوهري لبقاء التنافس متقارباً، على الرغم من سوء الوضع الاقتصادي. فأميركا البيضاء لن تذهب إلى صناديق الاقتراع.. هكذا بلا مقدمات.. لانتخاب رئيس أسود.

السبب الثاني، أن القوى والتيارات التي تقتات من التعصّب الشديد، دينياً كان أو طائفياً أو عرقياً، تمارس ـ على امتداد السنين ـ مع جمهورها في مجتمعات تعتبر نفسها حرة عملية «غسل دماغ» فظيعة فيسهل عليها بالتالي إقناعه بأي شيء، وأحياناً بالشيء وعكسه في الوقت نفسه. وما نلحظه اليوم مع بعض القوى في لبنان كـ«التيار العوني»، مثلاً، دليل ساطع على ذلك.

الحزب الجمهوري الأميركي منذ هيمن الأصوليون المسيحيون على قواعده الشعبية مارس بفعالية هذه العملية. واليوم نجد أن قطاعاً واسعاً من الأصوليين المسيحيين الذين كانوا قبل عشرين سنة مثلاً يستنكرون العلاقات الجنسية قبل الزواج يتسامحون مع حمل ابنة سارة بايلن المرشحة لمنصب نائب الرئيس!

في واقع كهذا، يصبح من الواجب قراءة الحالة الانتخابية الأميركية، كما قالت إحدى الصديقات الأميركيات في تعليق ذكي، على أن كل ما فعله الانهيار الاقتصادي هو خلق منافسة حقيقية.. فلولاه لما كانت هناك أي منافسة أصلاً.