كرزاي للعراق أم مالكي لأفغانستان؟

TT

حتى عامين ماضيين، كنت كلما ناقشت قضية العراق في واشنطن ينتهي النقاش إلى توجيه سؤال لي: كيف نجد كرزاي آخر للعراق؟

والإشارة تعني بالطبع، حامد كرزاي، رئيس الحكومة الأفغانية منذ سقوط الحكم الطالباني عام 2002.

وفي الفترة الأخيرة، استبدل هذا السؤال بآخر، فحاليا يتم سؤالي: كيف نجد مالكي لأفغانستان؟

والإشارة هنا إلى نوري المالكي، رئيس وزراء العراق منذ مايو (أيار) 2006.

ولنتساءل: ما السبب وراء هذا التغيير؟

أولا: ربما أنه في عام 2002، عندما تشكلت حكومة ما بعد طالبان في بون، بألمانيا، كان كرزاي معروفا فعليا في ذلك الوقت. فقد عاش في الولايات المتحدة لسنوات، حيث عمل مستشارا لشركات النفط الأميركية. وبعد هجمات11 سبتمبر (أيلول)، عمل على الفور مع الحكومة الأميركية للإطاحة بالنظام الطالباني. أما على الصعيد الآخر، فكان المالكي غير معروف لدى الأميركيين. وقد ظهر فجأة كمرشح متفق عليه لخلافة رئيس الوزراء العراقي السابق إبراهيم الجعفري، والذي كان بعض العراقيين يتصورون أنه شديد القرب من طهران.

ومع ذلك، فربما يكون السبب الأكثر أهمية لأفول نجم كرزاي وصعود نجم المالكي هو المنصب، فبينما كان الوضع يتدهور في أفغانستان منذ 2006، بدأ العراق يشهد بصيصا من الضوء في نهاية النفق المظلم الذي غط فيه منذ السنوات الأخيرة لصدام حسين. أما المشهد الآن في العراق وأفغانستان فيعكس النقيض تماما.

فبينما بات من الواضح أن مؤشر الأمل يهوي في أفغانستان، بدأ نفس المؤشر يرتفع من جديد في العراق الذي يشهد حاليا ازدهارا اقتصاديا، يمكن عزوه حاليا إلى الأسعار المرتفعة للنفط، ولكن ليس هناك أدنى شك في أن انخفاض الهجمات الإرهابية، والانبعاث البطيء لمؤسسات الدولة، وعودة الجيش إلى وجوده المطمئن، و«الزيادة» العسكرية الأميركية بقيادة الجنرال ديفيد بترايوس، وإخفاقات الجماعات المتطرفة في إنشاء وتطوير استراتيجية متماسكة قد ساعدت جميعا في تغير الوضع بالعراق.

وكان رمز التغيير في العراق هو المالكي بالطبع، بينما أُلقي اللوم بشأن الوضع المقيت في أفغانستان ـ والمتمثل في تفاقم العنف، وتفشي الفساد، وانحلال مؤسسات الدولة، والاقتصاد الهزيل ـ على كاهل كرزاي.

أشخاص أثروا في التاريخ: كما لاحظ بليخانوف، فإن التاريخ يعد خشبة المسرح، وهو من يكتب نص المسرحية. ومع ذلك، فإن الممثلين الذين يقومون بأدوارهم على خشبة المسرح يمكنهم إلى حد بعيد ابتداع تجارب مختلفة. وبالرغم من أنهما في نفس العمر تقريبا، إلا أن كرزاي والمالكي يعتبران ممثلين مختلفين تماما على خشبة مسرح التاريخ.

ولنبدأ بالمظهر والسمات الخارجية، وهي ذات أهمية غالبا ما تبخس السياسة قدرها. لقد حاول كرزاي بناء شخصية ملكية في الغالب، حيث ابتكر أسلوبا جديدا في الملبس، غير معروف لدى الأفغان، فهو يكتسي بعباءة تشبه التصميمات الأوزباكستانية، وقبعة محشوة باللباد تشبه تلك الخاصة بالناقدين وحكماء الهند، وغالبا ما تزدان قمصانه اليدوية الصنع بتطريز جميل، وقد أكمل هذه الملابس في الغالب بلهجة مسرحية. كما أنه يطلق لحية خشنة قصيرة للغاية، ويقصد من لحيته القصيرة التي تنمو على الأكثر في غضون يومين أو ثلاثة طمأنة التقليديين والمتمسكين بالعادات والأصول، ولكن بدون إقلاق أنصار الحداثة.

أم في المقابل، فإن المالكي لا يربي لحية لطمأنة الإسلاميين. بل يتمسك بالشارب التقليدي في الكثير من الدول العربية، خاصة في العراق. ويرتدي رئيس الوزراء العراقي اللباس المهندم اللائق، وغير الغالي في نفس الوقت. وفي الحقيقة يرتدي رئيس الوزراء العراقي ربطة عنق للتعبير صراحة أنه لا يشارك ملالي طهران وجهة نظرهم بشأن ملابس الذكور. ويبدو المالكي من هيئته كمواطن عراقي مدني عادي من الطبقة الوسطى، ويعمل لدى الحكومة أو شركة خاصة. وبينما تهدف صورة كرزاي لإبعاد نفسه عن الأفغان العاديين، بدا أن المالكي عازم على تقريب نفسه أكثر من المواطن العراقي العادي.

وهناك أيضا بعض الاختلافات الأخرى، ألا وهي أن كرزاي يعيش في قصر، مما يؤكد على نظرية الإبعاد، بينما يعيش المالكي في مقر إقامة حكومي يتسم بالحد الأدنى من الفخامة. وللتأكيد أكثر، فإن هذا التباين يرجع جزئيا إلى حقيقة أن كرزاي يعتبر رئيسا، وبالتالي فإنه رئيس الدولة الأفغانستانية، بينما أن المالكي يرأس الحكومة فقط.

وللتأكيد على صورته بأنه المنقذ الملكي الذي يجلس على كومة من الانقسامات والشقاق، أثار كرزاي التوقعات بأنه ليس هناك أي سياسي بأفغانستان يمكنه أن يشعر بالقناعة في الأيام الحالية. وعلى النقيض، اهتم المالكي بالتصرف على أنه الأول بين العامة، والرجل الذي يؤمن بصعوبة عملية التوصل إلى التفاهم والتسوية.

ويحب كرزاي الكلام الطنان، ويتظاهر بأن كل خطبة من خطاباته ذات أهمية تاريخية. وفي المقابل، يدلي المالكي بالقليل من الخطابات، ويكون حريصا كل الحرص على ألا تبدو خطاباته طنانة رنانة.

لقد عمل تواضع المالكي، وعمله الجاد، ونزاهته الشخصية على خدمة العراق بالصورة الملائمة. ومهما حدث بعد ذلك، فإنه يستحق الثقة والتقدير على توليه أكثر الوظائف صعوبة في العالم وتحقيقه فيها نجاحا غير متوقع.

ومع ذلك، فهؤلاء الذين يبحثون عن «مالكي لأفغانستان» فإنهم كمن يتحسس طريقه في الظلام.

إن أسباب الإخفاق الواضح لأفغانستان، والنجاح الواضح أيضا للعراق ليس كليا، كما أنه ليس شخصيا بالضرورة. وللبدء في هذه القضية، فقد أخطأ الأفغان وحلفاؤهم الأميركيون عندما صنعوا نظاما رئاسيا على النمط الأميركي في أفغانستان. فما كانت تحتاجه أفغانستان فيما بعد طالبان، هو نظام لا مركزي لتقاسم السلطة يعكس بدوره التنوع العرقي، واللغوي، والديني بالبلاد.

وقد أصاب العراق ـ الذي يشارك أفغانستان نفس نوعية التنوع ـ في اختياره لهذا النظام. وبينما ينظر الأفغان إلى الرئيس لحل مشاكلهم، يدرك العراقيون أنه ليس بمقدور أحد تقديم النتائج المرجوة.

وقد أقدمت الولايات المتحدة بنصيحة من كرزاي على القيام بخطأ آخر، حيث أصرت على حل جماعات المجاهدين المسلحة التي حاربت الروس في السبعينات، والثمانينات، وقاومت طالبان في التسعينات. وبالتالي، كانت النتيجة أن الجماعات المسلحة الوحيدة التي بقيت بالبلاد كانت طالبان، والتي بإمكانها العودة من جديد إلى شن عملياتها الهجومية خلال استعداد الجيش الأفغاني لتولي مهام حماية البلاد؛ وهي المهمة التي سيطول انتظارها كثيرا. بينما نرى على الجانب الآخر أن الجماعات المسلحة الكردية والشيعية التي حاربت صدام حسين في الماضي لم يتم نزع سلاحها. لذا ساعد وجودها المستمر في الحفاظ على السلام بالعديد من المحافظات، حتى إعادة بزوغ الجيش الوطني العراقي من جديد.

وفي أفغانستان، تم وصف نخبة من الساسة المناهضين لطالبان بـ«قادة الحرب»، ثم تم إخراجهم من اللعبة السياسية تماما. وأدى ذلك الأمر إلى منح قوة للمبعدين والمنفيين من أمثال كرزاي ممن لا يملكون قاعدة شعبية خاصة بهم.

أما في العراق، فقد حدث العكس تماما، فقد حصل «قادة الحرب» على حصة من السلطة لتكون جزءا من عملية قد تؤدي إلى تهميشهم لعقد من الزمان أو ما شابه.

ولن يجدي أن يكون هناك كرزاي للعراق، فالعراقيون ـ الذين تحرروا من قهر صدام حسين منذ فترة ليست بالطويلة ـ لن يقبلوا شكلا جديدا من تمركز السلطة بين يدي رجل واحد.

وفي بلد تتعدد فيه العرقيات والديانات، يصبح نظام الحكومة البرلمانية أكثر ملاءمة من النظام الرئاسي المنصوب في أفغانستان. ولم يحدث في أفغانستان مطلقا أن أدار حاكم واحد الدولة بمفرده منذ تأسيسها في القرن الثامن عشر. ونتيجة لهذا، يتجه القليل من الأفغان إلى الحكومة المركزية لحل جميع مشاكلهم. فالنظام الرئاسي أوجد الكثير التوقعات غير المرضية، حتى ولو وجدنا «مالكي» لأفغانستان.

إن ما تحتاجه أفغانستان ليس «مالكي»، بالرغم من أنه قد يكون معينا إلى حد كبير. إن أفغانستان بحاجة إلى اللامركزية، وتقاسم السلطة، وإعادة تأهيل الرجال والأحزاب التي حاربت روسيا وطالبان، ونمط جديد من السياسة تقوم على أساس الاعتدال، والعمل الجاد، والبحث المتواصل عن التسوية والتوصل إلى اتفاق.