هل الرأسمالية في خطر؟

TT

لم يكن أحد يقدر حجم الأزمة المالية العالمية التي بدأت منذ شهور  قبل ان يعلن الرئيس الأمريكي بوش، المنحدر آيديولوجيا من الأسرة الجمهورية المحافظة، ان الاقتصاد الأمريكي في خطر، بل ان النظام الاقتصادي العالمي نفسه على حافة الهاوية، مقترحا خطة عاجلة لإنقاذ المؤسسات المالية المنهارة عن طريق الآلية الاشتراكية التقليدية: التأميم بتدخل مباشر من الخزينة الفدرالية.

ما لا يدركه الكثيرون أن الأزمة لم تكن مفاجئة، وبدأت نذرها منذ سنوات عديدة، في حين اندلعت عمليا منذ السنة المنصرمة، الى حد ان نجم المال والمضاربة الأمريكي جورج سوروس أصدر قبل أشهر كتابا مثيرا بعنوان «النموذج الجديد للسوق المالية» خصصه لدراسة الأزمة المالية الحالية، ذهب فيه الى ان الاقتصاد العالمي دخل في أخطر أزمة منذ 1929، وتوقع الانهيار المتسارع الذي سجل هذه الأيام في أهم مراكز الاقتصاد الرأسمالي .

وللأزمة الحالية مستويان، يتعلق أولهما بانهيار السوق العقارية وأثرها على أشكال القروض الجديدة التي أبدعها النظام المالي في العقود الأخيرة، ومستوى آخر أعمق يتعلق بتركيبة المنظومة الرأسمالية نفسها من حيث طبيعتها وصيغ اشتغالها في عصر العولمة.

أما الجانب الأول فهو الذي شغل صناع القرار والفاعلين الاقتصاديين هذه الأيام، ويتلخص في لجم الانهيار المريع للأسواق المالية المرتبط بانكسار ثم تراجع طفرة الأسواق العقارية في أمريكا التي خلقت في الأعوام الماضية انتعاشا سريعا في حركة السيولة المالية كان أثرها السلبي تضخم القروض الذي أودى بصحة أكثر المصارف قوة وانعكس بالسوء على الظروف المعيشية لعشرات الآلاف من الأسر المستدينة، مخلفا في ان واحد أزمة اقتصادية واجتماعية مريعة لم يعرفها العالم منذ العقود السبعة الأخيرة.

ويرجع سوروس الأسباب الجوهرية لهذه الأزمة الى الثقة المفرطة في ميكانزمات السوق، انطلاقا من الإيمان بمسلمات النظرية الاقتصادية الكلاسيكية التي تعتبر ان الأسواق تنزع تلقائيا الى التوازن بحسب موازين العرض والطلب في مناخ من الشفافية الكاملة.

والواقع ان الاقتصاد المالي ليس بالعلم الدقيق، بل يؤدي فيه العامل الإنساني والاجتماعي دورا محوريا، ولا تتوفر فيه الشفافية المطلوبة مما يخضعه لشتى المفاجآت غير المتوقعة.

ينضاف الى هذا العامل الظرفي الانفصام المتزايد بين حركة المال والنشاط الاقتصادي العيني الذي يميز حركية العولمة، وله انعكاسات خطيرة على الفضاء الاقتصادي العالمي كما بين الكثير من رجال الاقتصاد في السنوات الأخيرة. ويذهب بعض هؤلاء الى اعتبار ان المنظومة المالية التي سيّرت الاقتصاد العالمي منذ اتفاقيات برتون وودز عام 1944 لم تعد تلائم اللحظة الراهنة، سواء تعلق الأمر بصندوق النقد الدولي الذي لم يعد قادرا على رقابة السياسات النقدية للدول، او بالبنك الدولي الذي تحول من وكالة للبناء ومحاربة الفقر الى مؤسسة قرض للدول الغنية الصاعدة، او بالمنظمة العالمية للتجارة المنبثقة عن اتفاقيات الغات التي غدت عاجزة عن أداء دورها المتمثل في التحقق من حركية المال والخدمات الضرورية لنمو الاقتصاد العالمي.

ومن هنا دعوة العديد من رؤساء دول البلدان الصناعية الغنية ورجال المال والأعمال في العالم الى البحث عن أدوات وأساليب جديدة لتسيير ديناميكية الاقتصاد العالمي الراهن. فما لا يدركه الكثيرون هو ان تركيبة النظام الرأسمالي نفسها قد تغيرت، من رأسمالية القرن التاسع عشر التي كانت تتسم بثنائية البورجوازية المالكة لرأس المال والطبقة العاملة المستخدمة. فما نشهده اليوم هو تشابك العلاقات الإنتاجية داخل الجسم الاجتماعي الواحد بحيث انمحت خيوط الفصل بين الإنتاج والاستهلاك والمالك والعامل نتيجة للتقنيات الاستثمارية والاقتراضية الجديدة وسيولة السوق المالية، في الوقت الذي انهارت طبقة الشغيلة بالانتقال الى نمط الاقتصاد غير المادي، وأصبح الطرف المتحكم في الدورة الاقتصادية هو البيروقراطي المسيّر وليس المالك نفسه الذي هو في الغالب وجه خفي في مركب واسع وديناميكي من المساهمين. فالفرد الواحد يكون في نفس الوقت مساهما ومستهلكا وأجيرا فتتجمع تناقضات العلاقات الرأسمالية التقليدية في ذاته.

كان عالم الاقتصاد الأمريكي الأشهر جون غالبرث، الذي رحل عن عالمنا عام 2006، بعد ان كتب في خاتمة حياته كتابا هاما بعنوان «أكاذيب الاقتصاد» قد حذر من الثقة في نظريات وخطط علماء الاقتصاد، مستخلصا ان «الاستثناءات في الاقتصاد هي دوما القاعدة الثابتة التي لا استثناء لها».