الأرملة

TT

في العامية الفرنسية مصطلحات لا علاقة لها بمعاني الكلمات في أصولها. فالشرطي، مثلا، يلقب بـ «الدجاجة». وفيها أيضا تعابير لا تعني شيئا وتستخدم للدلالة على كل شيء، كما في العامية المصرية، مثل «البتاع» و«الاسمو ايه». وكنت اعتقد ان «المسيو دو باري» هو لقب أحد أفراد أسرة نابليون أو دوقية أورليانز وما كان يمكن ان يخطر لي انه لقب الجلاد، صاحب المقصلة.

وقد سكنا مرة في شارع بول دومير، فاردت ان اعرف تاريخه. ووجدتني اقرأ عن قاتل الرئيس الفرنسي المذكور وليس عنه. ومع ان الباريسيين حنقوا اشد الحنق على المدعو غورغولوف، الرجل الذي ارتكب الجريمة. فان طريقة إعدامه أثارت غضب الجميع، خصوصا الصحافة. ففي الوقت الذي كانت باريس تمتلئ بالسيارات، خصوصا الفرنسية الصنع، كانت عربة الجلاد لا يزال يجرها حصان بليد وعليها قنديل بالكاز، ولم يكن قد ادخل عليها أي إصلاحات منذ ان اخترعها الدكتور غيوتان، الذي سميت باسمه مع التأنيث: غيوتيين.

أما الاسم الشعبي والشائع فهو «الأرملة» لكثرة ما رملت من رجال. ومثلما يطلق الفرنسيون أسماء طنانة على كل شيء فان مكتب الجلاد كان يعرف بـ «منفذ الأعمال العليا». وكانت المقصلة تجرب، قبل ظهور المحكوم، على رزمة من الحبال، ثم تنزل على العنق نفسه بعد التأكد من ان نصلها على ما يرام ويشتهى.

ووفق القانون الفرنسي لم يكن المحكوم يبلغ بموعد القصل ولقاء الارملة الا في الدقائق الأخيرة اذ يوقظ بالكلمة التالية: تشجع! ثم يعرض عليه سيجارة وكأس من الشراب. ولما كان غوغولوف حريصا على صحته، فانه لم يقرب السيجارة حتى اللحظة الأخيرة.

الذي لا يطلبه المحكومون، ويحصلون عليه في أي حال، التحية بالسيوف التي تؤديها فرقة خاصة قبل ان يصعد المحكوم إلى المنصة ثم يدخل رأسه في دائرة الحديد التي سوف تسقط عليها المقصلة من علٍ كجلمود صخر. قبل ذلك يتقدم المسيو دو باري من ضحيته، ويخاطبه بضمير الجمع: تشجعوا. لا نعرف طبعا بما يرد صاحب الرأس المقطوع على هذه التحية الأبوية، لأن الرأس يفر قبل العثور على كلمات مناسبة.

كانت مهنة الإعدام بالمقصلة، او المسيو دو باري، تنتقل من جيل الى جيل، الى ان ألغى فرنسوا ميتران اختراع الدكتور غيوتان. لا سيجارة مجانية مضرة بعد اليوم.