حمل حروفه ورحل في العيد!

TT

زارع الورد يموت في موسم المطر.. هكذا كان قدر أحد أبرز حداة قافلة الحبر وشداتها أن يموت في العيد، أن يموت في موسم الفرح، أن يخلع عن العيد جبة تخدير الأحزان لتنطلق الآه من عقالها ومعتقلها.. عبد الله عبد الرحمن الجفري، الكاتب والأديب السعودي الكبير الذي أطلق أسرابا من فراشات الكلام الأنيق على صفحات الجرائد والكتب والمجلات على مدى نصف قرن انسل في العيد من بين عيوننا كشعاع ضوء، أغلق نافذته التي كان يطالعنا من خلالها كل صباح، وحمل حروفه ورحل، وقد كانت الكتابة خبزه وحريته، شهيقه وزفيره، نبضه وخفقه، فهو والكتابة توأمان لا يفترقان..

في عقد الستينات الميلادية أحدث عبد الله الجفري ثورة أسلوبية في كتابة المقال على مستوى الصحافة السعودية، فتمرد على التراكيب اللغوية التقليدية والجاهزة والمكررة، وصنع بيادر قاموس مفرداته الأنيقة والرشيقة والمحلقة، ليغدو الكاتب النجم الذي يحظى بأكبر مساحات الإعجاب، منطلقا بعد ذلك من الصحافة المحلية إلى العربية، فكتب لسنوات طويلة في صحيفة «الشرق الأوسط» ثم صحيفة «الحياة»، قبل أن يستقر بعموده أخيرا على صفحات «عكاظ»..

عملت معه لفترة في ملحق «الأربعاء» بصحيفة «المدينة» في عقد الثمانينات من القرن الماضي، فكان عبقه ينعكس على كل الصفحات، وشاعريته تتألق في كل العناوين، وحسه الفني يبرز في كل الصور، ففي شخصيته يجتمع الأديب والإعلامي والفنان، وهو يقرن الدور الإخباري للصحافة بالقالب الجمالي، ويضع لكليهما نفس القدر من الاهتمام.. وهو من الذين لم ينصفهم الإعلام وظيفيا، ومع ذلك استطاع أن يصنع مجده بقلمه بعيدا عن «فاترينات» المواقع و«نيون» الواجهات، ولا أغالي إن قلت إنه الأكثر شهرة، والأبرز حضورا، والأعمق أثرا.. إنه مثال للكاتب الذي لم يستند قط إلى غير قلمه.

كنت أداعبه حينما يفيض حزنه متسائلا:

«ليه يا بنفسج بتبهج

وانت زهر حزين؟!»

فيركن إلى الصمت، ويسرح بنظراته إلى بعيد..

هو رجل ليس لدواخله مخابئ يختزن فيها فائض انفعالاته، إن أحبك أعلن عليك الحب علانية ومن غير انتظار، وإن غضب منك عبر عن غضبه مباشرة، والفارق أن حبه يدوم بينما غضبه مجرد سحابات صيف لدواخل إنسان معهودة بالنقاء..

فيا من تعودت أن تغري العيون بالسفر إلى نافذتك كل صباح: في الصيف والشتاء، في الربيع والخريف، لتبدأ صباحاتها بزقزقة حروفك، وموسقة كلماتك، ومواويل عباراتك.. كيف يمكن لنا أن نخبرك عن أشواق الحروف إليك، وقد أغلقت النافذة ورحلت؟!

[email protected]