استيطان أم اغتصاب!

TT

لم يحظَ موضوع بتلاعب لغوي ذي أهداف سياسية واقتصادية وعسكرية كما حظي موضوع ما يسمونه ضلالاً واحتيالاً «الاستيطان» الإسرائيلي لأرض فلسطين العربية المحتلة، حيث درج الإسرائيليون والغربيون على استخدام هذا المصطلح المضلّل وعبارات منتقاة تهدف إلى تضليل العرب والرأي العام العالمي حول أحد أخطر مظاهر الصراع العربي ـ الإسرائيلي. فالمعنى القاموسي لكلمة «استوطن» يعني «طلب وطناً له» أو حاول إيجاد وطن له ولكنّ ما يجري على أرض الواقع هو عمليّات قتل وتهجير قسريّ وإجراءات عنصريّة تُبيد السكّان الأصليين كي يحلّ محلهم قادمون مغتصبون للأرض والمياه والطبيعة والقرية والمدينة. ولذا فالكلمة التي تعبّر عمّا جرى في فلسطين هي «اغتصاب» ولكن سوف استخدم كلمة «استيطان» بمعناها الدارج مع محاولة الإشارة حيثما أمكن إلى المصطلح البديل. والعبارات المنتقاة بعناية تبدو عائمة عن قصد، فمن يعرف اليوم أيّ المستوطنات يجب أن تزال بعد أن اخترعت اسرائيل عبارة «المستوطنات الشرعية» وَ«المستوطنات غير الشرعية»، وبعد أن درج مسؤولوها على إطلاق عبارات مثل «أخذ الواقع على الأرض بعين الاعتبار» وهم يغيّرون هذا الواقع عن سابق تصميم منذ بدايات القرن العشرين. فكونداليزا رايس قاربت موضوع «الاستيطان» الإسرائيلي في مجلس الأمن بجواب يعمد في جوهره إلى تحقيق الهدف الأساسي من الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية، ألا وهو اغتصاب فلسطين، وتحويل شعبها إلى لاجئين يتمّ دمجهم في بلدان اللجوء مع الزمن، واستقدام اليهود من أوطانهم لخلق دولة يهودية، بينما يتمّ خنق إمكانيات قيام دولة فلسطينية على أرض فلسطين. البلدان العربية دعت إلى جلسة خاصة لمجلس الأمن مؤخّراً لمناقشة موضوع «الاستيطان»/«الاغتصاب» الإسرائيلي بعد أن تصاعدت الأعمال الإرهابية «للمستوطنين» المغتصبين في الضفّة مؤخراً، وواجهت السيدة رايس هذه الجلسة بالقول: «على الدول العربية أن تجد طرقاً لمدّ يدها إلى إسرائيل، وعلى العالم العربي أن يفهم أنّ إسرائيل تنتمي إلى الشرق الأوسط، وأنها ستبقى هناك». ويمثّل هذا التصريح نموذجاً، يكرره الزعماء الغربيون كافة منذ تحطيم فلسطين وتشريد شعبها قبل ستين عاماً، لسياسة غربية تجسّدت في وعد بلفور، وفي التحالف الاستراتيجي، المعادي للعرب، والمعلن بين إسرائيل والولايات المتحدة، وبينها وبين معظم الدول الغربية. هذا التصريح الذي يجسّد السياسة الغربية يعني عملياً أنّ الدول الغربية ترى أنّ إسرائيل لها «الحقّ» في اغتصاب فلسطين على حساب تهجير سكانها الأصليين بالإرهاب، منذ بداية الاحتلال الانكليزي قبل عام 1948. ولهذا الغرض يتمّ تسليح إسرائيل نووياً وتحويلها إلى ذراع عسكري يمتدّ إلى مناطق بعيدة كجورجيا، ويهدّد بلداناً بعيدة كإيران. وخلال العشرين سنة الماضية تقريباً من محاولات صنع «السلام» بين إسرائيل والحكومات العربية، حظيَ موضوع الاغتصاب الخطير هذا باهتمام صوري من قبل المسؤولين الأميركيين والغربيين لا يتعدّى لعبة تهدئة الخواطر كي تمرّ السنون ويتحقق لإسرائيل الوقت والتمويل اللازمان لإقامة المزيد من المستعمرات «المستوطنات» في ما تبقّى من أراضي فلسطين. ففي كلّ مرة زارت فيها كونداليزا رايس، أو أحد أقرانها الغربيين، منطقة الشرق الأوسط «انتقدت» فيها توسيع الاستيطان الإسرائيلي، الذي يستمرّ ويتضاعف كلّ عام، بما في ذلك العام الجاري ولا يعرف أحد ما يعني عبارة «انتقاد» الاستيطان، أو قيام الاتحاد الأوروبي مثلاً بـ«حثّ» إسرائيل على «وقف الاستيطان»، في الوقت الذي يعلم فيه الجميع أنّ إسرائيل تعتمد على تنفيذ الخطط «الاستيطانية» الهادفة إلى تغيير واقع الهويّة العربية لفلسطين، وعزل القرى والمدن الفلسطينية عن بعضها بعضاً بطرق جعلت خارطة فلسطين قبل بضعة عقود وخريطتها اليوم أمرين مختلفين تمام الاختلاف. والمشكلة الجوهرية في كلّ الصيغ العربية للتسوية مع «إسرائيل»، هي أنّها لم تبذل الجهد الكافي لمواجهة هذا الاغتصاب باعتباره أحد أخطر الجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبها الإسرائيليون وحلفاؤهم ضدّ شعب فلسطين. ففي السنوات الأخيرة على الأقلّ يحتلّ لقاء أولمرت مع مسؤولين فلسطينيين، على سبيل المثال، المكان الأول في نشرة الأخبار، بينما تلتهم الجرّافات الإسرائيلية المزيد من الأراضي الزراعية والمياه، وتبني إسرائيل المزيد من «المستوطنات» بطريقة تجعل من الصعب على الفلسطينيين تحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة.

لقد مثّل «الاغتصاب»/«الاستيطان» اليهودي لفلسطين أحد أهمّ ركائز قيام إسرائيل باعتبارها دولة مستوطنين تمكّنوا من السيطرة على الأرض بعد أن تمّ تهجير السكان الأصليين من مدنهم وقراهم. ومَنْ يُشاهدْ خريطة فلسطين التاريخية قبل عام 1948، يَرَ أنّ مئات القرى الفلسطينية قد أُبيدت عن بكرة أبيها، واستبدلت بمستوطنات الاحتلال وهي تشكّل في بنيتها وتوزّعها وحداتٍ اقتصادية وعسكرية تمزّق أوصال الفلسطينيين، فتمنع التواصل بينهم كي لا يقاوموا الاحتلال، وكي لا يشكّلوا هوية ثقافية وحضارية واحدة. وهذا هو الأسلوب الذي تمّ اتّباعه لإبادة الهنود الحمر والأبورجينز، عن طريق عزل السكان الأصليين في كانتونات صغيرة، ضعيفة ممزقة يصعب عليها إقامة المرتكزات الاقتصادية لقيام الدولة الوطنية، وعاجزة عن التعاون والتكاتف والتكامل. من هنا يؤكّد الإسرائيليون دوماً على اقتلاع أشجار الزيتون، وقتل الرعاة، وطمر الآبار، واستهداف الأطفال، وفرض الحصار، ونشر الحواجز، وتجريف الأراضي الزراعية، كما يأتي التفاف جدار الفصل العنصري تنفيذاً لمخطط يوفّر المياه والأرض الخصبة للمستوطنين، ويحرم العرب من هذه الأراضي والمياه ويخنق الحياة الاقتصادية. في مدينة الخليل، مثلاً، ما يزال حفنة من المغتصبين «المستوطنين» ينكّلون بمئات الآلاف من سكان المدينة مستهدفين أصحاب الحرف التقليدية الذين يشكّلون هوية المدينة التاريخية والحضارية. وما نقاط التفتيش الإسرائيلي ومئات الحواجز التي تقطّع أوصال الفلسطينيين في الضفة والقطاع إلا وجه من أوجه تثبيت هذا «الاغتصاب» /«الاستيطان». وما عمليات التنكيل، وإغلاق المدارس والجامعات، ومنع المصلين عن المسجد الأقصى، وتدمير الزراعة، وخنق الأعمال الحرفية والصناعية إلا جهود إسرائيلية حكومية مرسومة بدقّة لاستبدال الحياة الفلسطينية بحياة غزاة جاؤوا من بلدان عديدة وانتزعوا الأرض من سكانها الأصليين بالمجازر والحصار والاغتصاب، وما فتئوا يغيّرون كلّ وجه من أوجه الحياة فيها وهم يشترون الوقت بالسنوات بل بالعقود، وباتفاقات ينقضونها، وبالحديث عن سلام هم أعداؤه، وعن دولة فلسطينية يعملون ليل نهار كي لا ترى النور.

والمفارقة الأخطر هي أنّ الإعلام العربي، الذي من المفترض أن يكون لسان حال العرب، ينقل عبارة «التنازل» أو «التعويض» دون أن يلحظَ المفارقة، ودون أن يعكس العبارة لتعبّر عن الحقّ الفلسطيني، أو لتفضح على الأقلّ المصطلح الذي يريد أن يسبغ ثوب الحقّ على الباطل، ويسلب أصحاب الحقوق من حقّ تاريخي مشروع وفق كلّ الأعراف والمواثيق الدولية. في هذا الإطار، لا أعرف كيف يمكن أن نترجم ما قاله بيرنارد كوشنير، وزير خارجية فرنسا، باسم الاتحاد الأوروبي لأنّ بلاده ترأس الآن الاتحاد الأوروبي، حين أعاد التأكيد على وجهة نظر الاتحاد الأوروبي بأنّ «المستوطنات» الإسرائيلية «حيثما كانت في الأراضي الفلسطينية المحتلة هي غير شرعية وضدّ القانون الدولي». هل يقصد بذلك تعريف الاستيطان في الويكيبيديا بأنّ «الاستيطان الإسرائيلي هو المجموعات اليهودية التي سكنت في الأراضي التي وقعت تحت السيطرة الإسرائيلية كنتيجة لحرب عام 1967»؟ وهل يعني هذا التعريف غضّ النظر عن كلّ ما سببه الاغتصاب «الاستيطان» الأقدم لمدن وقرى وشعب فلسطين بأكمله؟

وبسبب أهميّة «الاستيطان» للمشروع الصهيوني، تقوم إسرائيل متستّرة بمن يسمّونهم «جماعة إسرائيلية متطرّفة» بملاحقة وتصفية منتقدي الاستيطان من عرب ويهود. فلقد أعلنت هذه «الجماعة»، غير البعيدة بالتأكيد عن الأجهزة الأمنية الرسمية، مسؤوليتها عن التفجير الذي أصاب البروفسور زئيف شتيرنهل، وهو من أبرز اليهود المعارضين لبناء «المستوطنات» في الضفة الغربيّة، كما خصّصت هذه «الجماعة» مكافأة مالية لمن يقتل أيّ فرد من أعضاء حركة «السلام الآن»، التي تعارض «الاستيطان» اليهودي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وهذه «الجماعة» تقوم بقتل الرعاة والفلاحين أينما وجدتهم على طريقة عصابات الهاغانا والأرغون الإرهابية التي شكّلت البنية الأساسية للجيش والأجهزة الأمنية والمخابراتية الرسمية الإسرائيلية. إنّ «الاغتصاب» / «الاستيطان» الإسرائيلي لا يشكّل «عائقاً للسلام» وحسب، وإنما يشكّل خطراً داهماً على هوية الشعب الفلسطيني لأنه يهدف إلى تقويض فلسطين كوطن لشعبها الأصيل، و«الاغتصاب»/«الاستيطان» هو مصدر الخطر الحقيقي على حقّ الشعب الفلسطيني التاريخي في أرضه ودولته. فهل يتوقّف الإعلام العربيّ عن استنساخ المصطلحات الإسرائيلية الهادفة إلى تزييف جوهر «الاستيطان» وخطورته؟ وهل حان الوقت لإعادة تعريف «الاستيطان» قانونيّاً وسياسياً بأنه اغتصاب وتشريد وعدوان على فلسطين وشعبها وأنّ معالجته يجب أن تتم وفق هذا المفهوم له وليس وفق ما يروّجون ويخترعون لتقويض هذه الحقوق والتنكّر لها.

www.bouthainashaaban.com