نزيف في نيويورك ودماء في العالم الثالث

TT

حجم الأموال التي تفقدها الأسواق الغربية أكبر من قدرتنا على فهمها لضخامتها، فسوق واحدة مثل داو في نيويورك خسرت في اسبوع اكثر من تريليين، اي اثنين تريليون دولار. والتريليون بحسب الموسوعة الرقمية مليون مليون، وبلغتنا البسيطة خسرت سوق واحدة في اسبوع أكثر من كل أموال ميزانيات دولنا العربية في عام كامل.

مع هذا فخسائر سوق داو الضخمة في ثمانية ايام دامية عمليا أقل من عشرين في المائة، مقارنة بخسائر أسواق جنوب وجنوب شرقي آسيا. طبعا سيقول لك الاقتصاديون الفارق في الحجم لا في النسبة، مع هذا فاسواقهم أيضا حجمها ضخم وقادرة على الوقوف، رغم انها تنزف، اما الاسواق الأصغر فقد طارت من أول هبة ريح، ونحن ننتظر أخطارها السياسية لاحقا.

هم في حالة ذعر من ماذا؟ يخافون من كساد مالي. في حين اننا كأسواق صغيرة نواجه احتمالات انهيار، والفارق هائل بين الكساد والانهيار، وهذا ما لا يفهمه الفرحون باخبار تدهور الرأسمالية الغربية الشريرة. هم معلقون بأرجلهم في حين اننا معلقون من ارقابنا بهذه الأسواق، لا فرق بين دولنا، نامية يسارية او يمينية، نفطية او حمضية، نظيفة او فاسدة. كل الدول خارج الحزام الصناعي الكبير تعيش اليوم على حافة الانهيار الا من رحم ربنا، في حين انهم مهددون بالكساد الذي يعني ارتفاع نسبة البطالة وضعف السوق. الانهيار لنا يعني ان تدور القيمة الشرائية الى درجة العجز عن شراء ثمن العشاء، بما يفوق ما رأيناه في مصر أخيرا عندما ارتفع سعر الرغيف بسبب نقص الطحين. بالنسبة لهم النتيجة ان يعاقب الاميركيون الرئيس وحزبه بانتخاب خصمه باراك اوباما وحزبه الديموقراطي. أما في العالم الثالث ينتقم الناس بالفوضى والثورة الدموية على الحكومات لانهم لا يملكون بديلا للمحاسبة. والحقيقة ان كل الدول متورطة رغما عنها لأنه لا يوجد أحد في العالم يعيش خارج الفلك الرأسمالي الا من هم في الكهوف.

معظم الدول الصناعية الغربية تولول لكن من ماذا؟ من خسائر ثمانية في المائة وعشرة في المائة، كما حدث لمعظمها في يوم الجمعة الأسود، في حين ان ماليزيا واندونيسيا كانت تنزف دما بشكل هائل مع ان لا علاقة لها بالسبب. سوق نيويورك تبكي انها خسرت نحو عشرين في المائة في ثمانية ايام، خسارة لم تعرف مثلها منذ 112 عاما، مع هذا لم تغلق ابوابها، واكملت ايامها الثمانية القاسية تدق الجرس في نهاية الدقيقة الأخيرة، مقارنة بسوق موسكو التي أضطرت الحكومة الى التدخل واغلاقها حتى لا تنهار.

حتى تشفى السوق قد تستغرق عشر سنوات، وليس كما يظن من هم جالسون قبالة التلفزيونات يستمعون الى خطب الانقاذ الرسمية، لأن المشكلة ليست في نقص المال او توفيره بل في فقدان الثقة في السوق. هذا ما يعرفه جيدا متعاملو السوق السعودية الذين روعتهم الخسائر الهائلة في الأزمة الماضية، ورغم ان كل التطمينات والاغراءات الا ان أكثر الناس يرفضون العودة خوفا من أن يلدغوا من نفس الجحر مرة ثانية. سيعودون إنما بعد ان ينسوا ويسامحوا.

[email protected]