الصحافة تغضب أردوغان

TT

«أدعوا جميع المحازبين الى مقاطعة هذه الصحف، الى عدم حملها الى منازلهم والى اطلاق حملة مضادة في وجه الاخبار الملفقة الكاذبة التي تنشرها ضدنا.. «هكذا أعطى رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي قبل أيام اشارة الانطلاق الى أنصاره، ليتحركوا ضد مؤسسات ايدن دوغان، التي تسيطر على نصف القطاع الاعلامي في تركيا، غير عابئ بما قد تحمله من ردود فعل سلبية داخل تركيا وخارجها، تضر بمكانة الحزب وموقعه وتستفز المدعي العام التركي مجددا للنبش عن مواد يجمعها في محاولة جديدة للمطالبة بحظر العدالة واغلاقه.

الصحافة التركية التي حققت خلال السنوات العشر الأخيرة قفزة نوعية كبيرة مهنيا وخدماتيا وتقنيا مستفيدة الى ابعد الحدود من فوائد العلمنة التجارية بالدرجة الأولى تعيش هذه الايام أزمة مهنية ـ سياسية حملتها الجوانب السلبية من نظام العولمة نفسه الذي يصر على اعتبار المؤسسات الاعلامية قطاعا تجاريا مهمته بالدرجة الأولى توفير الربح المادي بعدما عمل جاهدا لتصفية مفهوم الصحافة أو الجريدة التقليدية التي يديرها ويشرف عليها ويمتلكها احد ابناء المهنة. لا بل ان الاكثر خطورة كان ارتفاع عدد هذه المؤسسات التي لم تتردد في الترحيب بالأموال الخارجية، وفتح الابواب أمامها تحت شعار الاستثمار والتعاون والتي باتت تتمركز في مواقع القرار والادارة.

منذ اكثر من أسبوعين والداخل التركي يشهد مواجهة تتزايد حدة واشتدادا بين حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان وبين مجموعة دوغان الاعلامية، بدأت في اعقاب انباء نشرتها المؤسسة حول محاكمة وادانة 3 مسؤولين أتراك في جمعية المنارة الخيرية، اتهموا بجمع أموال من الاتراك المقيمين في اوروبا، بلغت قيمتها اكثر من 18 مليون يورو وارسالها الى تركيا من دون وسيط بنكي لاستخدامها في انشاء قناة تلفزيون مقربة من الحكومة. ومؤسسة دوغان هنا عملت على ادراج اسم اردوغان في الموضوع ملمحة الى انه كان بين الاشخاص الذين تسلموا قسما من هذه الاموال، مما اغضب رئيس الحكومة التركية ودفعه لاعلان الحرب عليها، متهما اياها بقيادة حملة اعلامية ضده سببها الانتقام من الحكومة التي رفضت الاستجابة الى بعض مطالبها.

أردوغان كان شديد اللهجة في انتقاد هذه المؤسسة التي تجمع «فرسان رب العمل» يحاربون بسيفه وهو رغم الردود العنيفة والانتقادات التي تعرض لها بسبب هذه التصاريح، قرر مواصلة هجماته داعيا حزب العدالة الى بناء التحصينات والتمركز وراء المتاريس في هذه المعركة.

النتائج على الأرض حتى الآن تعكس صورة تقدم الطرف الآخرعلى أردوغان بفارق ملحوظ، خصوصا ان دعوات المقاطعة هذه، والتي تعتبر ضربة معلم، غير موفقة أغضبت الكثير من المؤسسات الاعلامية ونقابات الصحافة واتحاداتها داخل تركيا وخارجها، حتى أن العديد من الكتاب الذين كانوا بالأمس القريب يشيدون بانجازات العدالة وسياساته والذين رجحوا الوقوف على الحياد في الجولة الأولى، وجدوا أنفسهم مجبرين على النزول الى ساحة المواجهة، فما يجري يعنيهم مباشرة وعلى أكثر من صعيد، سواء قالوا نعم أولا.

ورطة حقيقية كان أردوغان في غنى عنها وهو يسجل الانتصار تلو الآخر داخل تركيا وخارجها، خصوصا عندما نقرأ للبعض في مؤسسات دوغان وهم ينقلون تصاريح تصف ما يجري بـ«قرقعات فاشية» وضربة للديمقراطية ومحاولات النيل مما انتزعته الصحافة التركية حتى الآن من انتصارات مهنية وقانونية واجتماعية.

باختصار لا أحد منا يستطيع اليوم أن يطلق تكهنات وتوقعات حول مسار المواجهة التي اخذت شكلا وبعدا جديدا بدخول المعارضة السياسية في تركيا والاتحاد الأوروبي على الخط، تحت شعار التضامن مع رجال الفكر والقلم، منتقدين تجاهل أردوغان لوقوف العديد منهم الى جانبه قبل 7 سنوات، عندما سجن بسبب مقاطع من الشعر رددها في مهرجان خطابي.

جناح أردوغان قد يكون أراد طرح ومناقشة مواضيع استقلالية الصحافة وحرب تحرير المؤسسات الاعلامية من الارتهان والمتاجرة، ولعب ورقة انقاذ الصحافة من عقدة التحكم والهيمنة، لكن أردوغان وضع بيد الطرف المقابل الكثير من الاوراق القيمة الذي بدأ يتلاعب بها، وهو حتما سيجيرها ويستخدمها على كافة المستويات والصعد.

مواجهة تستحق المتابعة عن قرب طبعا، لأنها ستقلب الكثير من الحسابات والتوازنات رأسا على عقب في الداخل التركي: ايدن دوغان يقول إنه على حق، لأن مؤسسته تقوم بواجبها في الرصد والمتابعة ونقل الوقائع، لكن اردوغان يقول انه على حق أيضا في اشعال الحرب على هذا العقلية في التعامل مع المسائل خصوصا، أن الحكومات السابقة اظهرت ضعفا وتراجعا لصالح هذه المؤسسات.

ما يجري في تركيا اليوم ليس غريبا على الكثير من دول المنطقة، التي اختارت التعايش والهدنة والاعتدال في العلاقة بين الصحافة والسياسة أهم وأقوى مؤسساتها، لكن تحرشات وتدخلات ارباب التجارة وعقلية التعامل مع المؤسسات الاعلامية وكأنها سلعة تجارية في السوق، ضمن حسابات الربح والخسارة تحيط بنا وتهددنا، ولن يمكن تجنبها بهذه السهولة فالمعادلة تزداد انقشاعا.. سياسة تعاني من اعلام طلق وحر زيادة عن اللزوم تتهمه بتجاوز الحدود والصلاحيات أم صحافة تصر على عدم التراجع والتساهل، اثناء اداء الواجب ارضاء للسياسة والسياسيين؟

اصلاحات وتغييرات وتعديلات اساسية لا بد من طرحها ومناقشتها في تركيا، لها علاقة مباشرة بالحريات والديمقراطية والرقابة الذاتية والقانونية والاستقلالية المسؤولة، فهل يتحرك الاتحاد الاوروبي بمعاييره ومقاييسه لوضع حد لهذه المنازلة، وليكون الحكم والحل كما حدث في اكثر من مرة؟

أردوغان يقول إنه لن يكون كبش الفداء الذي تقدمه السياسة ارضاء للصحافة، وهو ينتقد حالة اليوم في أن تتحول بعض المؤسسات الى مراقب ومتعقب ومستثمر وحكم ومجند للرأي العام تتلاعب بميوله وخياراته يدعمها في ذلك غطاء مالي ضخم مرتبط بنظام اقتصادي متشابك ومعقد. فهل ينجح اردوغان في قلب الحسابات رغم أن الصحافي في جريدة «راديكال» مراد يتكين يذكره أن الصدام بحد ذاته مسألة تلحق الضرر بالمتصادمين؟

* كاتب وأكاديمي تركي