الأزمة المالية العالمية تساهم في رسم خريطة العالم السياسية

TT

يقول العليمون بالفكاهة إن من أهم مصادر الإضحاك المبالغة المفرطة.

فمن أظرف ما يروى، مثلاً، أخبار غلاة البخلاء الذين صوّر الجاحظ قصصهم الطريفة في كتاب صار أحد أشهر كتب التراث العربي. أيضاً تثير الضحك طرائف الأكولين الذين يفوق نهمهم وقابليتهم على الأكل أي حد يتقبله العقل.

وبما أن «شر البلية ما يضحك» سمعت خلال الأيام القليلة الماضية نماذج من التنظير المبالغ في انحيازه «الآيديولوجي» إلى حد يدعو حقاً إلى الضحك. فبعض المعلّقين «الأصوليين» في إيمانهم بـ«عصمة» اقتصاد السوق الحر، لم يتردّدوا في تدبيج المقالات والتحليلات متفائلين بحتمية ضبط السوق نفسه ذاتياً، زاعمين ان الأزمة المالية التي تعصف بالبشرية ما هي إلا سحابة صيف.. وهذا، بينما ترتعد فرائص وزراء المال والاقتصاد وحكام المصارف المركزية في العالم الصناعي، ويقر قادة الدول المتقدمة بأن علاج الأزمة الخطيرة الراهنة بات فوق قدرات أي اقتصاد وطني بعينه، وبالتالي، لا بد أن يأتي جماعياً متكاملاً.

وفي المقابل، هناك من يكابر ويشمت، وكأن المسألة أولاً مدعاة للشماتة، وثانياً كأن جميع دول العالم الراقية كيانات تسيّرها «مافيات» الانفلات، ناسين أو متناسين أن معظم دول الغرب الرأسمالي هي عملياً دول اشتراكية ديمقراطية تتعايش فيها، جنباً إلى جنب، فرص الاقتصاد الحر مع ضوابط الاقتصاد الموجّه وضماناته الاجتماعية.

ولكن من المكابرات التي تصل إلى حد الإضحاك ما جادت به على اللبنانيين صحيفة لبنانية، تدّعي الجدّية والوقار والراديكالية، عندما أشارت بشماتة صبيانية إلى انهيار النظام الرأسمالي الورقي في العالم بينما نجحت إيران في تحقيق الاكتفاء الذاتي، فنأت بنفسها عن ذلك الانهيار!

كلام من هذا النوع، طبعاً، أتفه من أن يستدعي نقاشاً. لكنه، على أي حال، نموذج ناطق لمستوى فكري متخلف وعديم الموضوعية.

العقل يقول ـ وكاتب هذه السطور ليس اقتصادياً ـ إن لا أحد في العالم بمنأى اليوم عن التداعيات الاقتصادية الدولية مهما كانت نسب التأثر، تماما، كما أنه ما عادت توجد حصانة لأي دولة ضد ظواهر طبيعية هائلة كالانحباس الحراري والمطر الحمضي والإشعاعات النووية.

فالعالم «قرية كونية»، كما قال ويندهام لويس عام 1948، ثم استخدم مارشال ماكلوهان هذه العبارة خلال عقد الستينات من القرن الماضي في تناوله ثورة الاتصالات. ولعلنا نتذكر جيداً كيف اكتشفت الإشعاعات في حليب الماشية في إقليم ويلز البريطاني خلال أيام من التسرب النووي في مفاعل تشيرنوبل الأوكراني عام 1986، بسبب حركة السحب.

فرنسوا ميتران وأندرياس باباندريو وفيليبي غونزاليس، وغيرهم كثر من القادة الاشتراكيين، حكموا دولهم الغربية لفترات طويلة، لكنهم كانوا يدركون أن ثمة اقتصاداً عالمياً كبيراً اقتصادات دولهم فيه أصغر من أن تنجز تغييراً راديكالياً. ولذا كان النطاق الأوفق للتفاعل والتعاون الاقتصادي عند شريحة من اليسار الأوروبي المعتدل دخول منظومات «فوق وطنية» تتيح مجالات التحاور والتخفيف من التناقضات المصلحية. وعلى النقيض تماماً، ارتأى آخرون أن الضمانة الوحيدة للمحافظة على التوازن الاقتصادي يقوم على الحفاظ على الكيانات الوطنية ومنع تذويبها في كيانات أكبر.

وفي منتصف عقد التسعينات، بعد فترة قصيرة من انهيار «المعسكر الشرقي»، مرّت بريطانيا ـ المحافظة يومذاك ـ بأزمة خيارات أساسية داخل حزبيها الرئيسين. وبينما مزّق حزب المحافظين نفسه بين تياري «الأوروبيين» و«المحليين» فخسر الانتخابات عام 1997، اعتمد حزب العمال نهجاً براغماتياً معتدلاً وقلّم أظافر راديكالييه الذين كانوا يناوئون الوحدة الأوروبية، ففاز.

كيف ستكون انعكاسات الأزمة المالية على الخريطة السياسية لأوروبا وأميركا خلال الفترة المقبلةّّ؟

هذا سؤال مهم جداً، وبخاصة أننا على أبواب الانتخابات الأميركية في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وما سيحدث في أميركا سيترك، على الأرجح، تأثيراً مباشراً على المشهد الأوروبي.

معركة أميركا ليست معركة البيت الأبيض فحسب، بل هي معركة الكونغرس أيضاً. وما سيرسو عليه مجلسا الكونغرس من «ميزان قوى» قد يكون تأثيره ضخماً على المشهد السياسي الأميركي، ولا سيما إذا تمكّن الديمقراطيون من كسب السباق إلى البيت الأبيض. ذلك أن نجاح الحزب الديمقراطي في السيطرة على السلطتين التنفيذية والتشريعية تحت وطأة الظروف الاقتصادية الراهنة.. قد ينعكس مباشرة على عدد من الدول الأوروبية.

بريطانيا وألمانيا، بالذات، تستحقان الرصد في هذه المرحلة لأنهما قريبتان من انتخاباتهما العامة، وكانت فرص فوز اليسار المعتدل فيهما، ممثلاً بالعمال في بريطانيا والديمقراطيين الاجتماعيين (أو الاشتراكيين) في ألمانيا.. ضعيفة جداً قبل تفجر الأزمة وتكشف أبعادها وتداعياتها المعيشية المحتملة.

شيء ما يحدث الآن. وقد تكون الأزمة الحالية «منقذاً» غير متوقع لغوردون براون رئيس الحكومة البريطاني الذي تراجعت أسهمه بشكل مروّع خلال الأشهر القليلة الماضية أمام تحسن أداء المحافظين بزعامة ديفيد كاميرون.

وفي ألمانيا كانت فرص الديمقراطيين الاجتماعيين شبه معدومة، ليس فقط بسبب الرضى عن ألمستشارة أنجيلا ميركل، بل لأن حزب اليسار ـ الذي يضم اليوم ضمن من يضم شيوعيي ألمانيا الشرقية السابقة ـ يتمتع بقوة متزايدة تنتزع من الديمقراطيين الاجتماعيين عدداً من ساحاتهم السياسية على امتداد البلاد. بل إن حزب اليسار يستعيد حالياً شعبيته في الولايات الشرقية، أي ألمانيا الشرقية السابقة، موطن ميركل ومصدر انتعاش اليمين في سنوات ما بعد إعادة توحيد البلاد.

خلاصة القول، إن الاجتماعات الدولية التي عقدت، وتعقد، على مستوى عالٍ لمعالجة الأزمة الحالية، تشير إلى واقعية عميقة قد لا تبدو واضحة للعامة في خضم المجادلات السياسية. ومؤسسات السلطة في الدول المسؤولة تدرك متى تصل الأمور «الخط الأحمر»، ولذا تتحرك بلا تردد لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية المواطن والنسيج الاجتماعي، وبالتالي، الأمن العام. وهذا ما يجعل المبالغة العبثية سواء في الإعجاب باقتصاد السوق الحر والإطراء على مزاياه، أو الشماتة بتعثراته والتبشير بفضائل الجمود والانعزال عن العالم، ضرباً من الحمق.. المضحك المبكي.