الفقر والتنمية

TT

هذه محنة الشعوب الفقيرة في هذه الدورة المفرغة. تحتاج هذه الشعوب إلى النمو لتتخلص من فقرها ولكنها بعين الوقت لا تستطيع النمو بسبب فقرها. تجسم ذلك في التقرير الذي صدر مؤخرا من منظمة الصحة العالمية بقلم خبيرها البروفسور مايكل مرموت، رئيس اللجنة المكلفة دراسة الموضوع. يربط التقرير بين الفقر والموت المبكر. هذا شيء نعرفه. الفقير عمره قصير. الفقر يؤدي للجوع وسوء التغذية والمرض وانعدام الدواء. بيد أن التقرير يردف ذلك بالأمثلة والأرقام. فمعدل عمر الياباني 83 سنة والسويدي 81 سنة ضعف عمر الليسوتي الأفريقي 42 سنة. وأوضح التقرير أن حتى توفير الخدمات الصحية الجيدة يعجز عن تخطي مشكلة الفقر. فعمر الإنسان في مدينة غلاسكو الفقيرة في بريطانيا أقل من عمر الإنسان في ليبيا أو تونس أو كوبا رغم الخدمة الطبية البريطانية الجيدة في غلاسكو.

لهذا الموضوع أثره على التنمية. فعندما تنفق اليابان على تعليم المواطن حتى سن 18 سنة مثلا تحصل منه 65 سنة من المردود في حين أن ليسوتو لا تحصل منه غير 24 سنة من الخدمة قبل أن يموت مبكرا.

الموت المبكر ليس العنصر التنموي السلبي الوحيد في المجتمع الفقير. هناك أيضا أثر التغذية السيئة على مواهب المواطن. فالدراسة التي أجراها لنارد وروبرتسن تشير إلى أن حجم الدماغ يتوقف على أكل اللحوم والفواكه والبروتينيات، ولاحظ العالمان الفاضلان أن تطور دماغ الإنسان عبر العصور الساحقة توقف إلى حد كبير على ما كان يتناوله من طعام. ومن ناحية أخرى، لاحظ العالمان اجيلو وويلر أن طبخ الأكل يسهل الهضم فيزيد من توفير الطاقة للدماغ. وهذه جميعا عناصر يعوزها الفقراء، بما فيها الوقود اللازم للطبخ. تبين أيضا أن حالة الجهاز العصبي للمواطن تتوقف كثيرا على ما تلقته أمه في مرحلة الحمل والعشرة أشهر الأولى من مرحلة الرضاعة من الفيتامينات، ولا سيما فيتامين بي 12 والمعادن وعلى رأسها الحديد والزنك، بعبارة أخرى التغذية الجيدة.

الأم الجائعة لن تعطينا عباقرة وجهابذة وعمالقة. وهذا ما فات على محمد علي الكبير عندما تصور أنه سيرتقي بمصر إلى مستوى أوربا بمجرد إرسال البعثات إليها وترجمة مؤلفاتها العلمية وفتح المعاهد الهندسية في القاهرة. وما انطبق عليه ينطبق على بعض حكامنا المعاصرين. لا سبيل للنهوض والتنمية بدون النهوض بمستوى المرأة وإزالة الفقر من المجتمع.

حاول صدام حسين تجاوز ما فات على محمد علي الكبير بتوفير الحليب وحبوب الفيتامينات لطلاب المدارس العراقية. ولكن هنا أيضا بعد فوات الأوان. فكما قلت، دماغ المواطن لا يتوقف على ما يتناوله فيما بعد، وإنما على ما تناولته أمه في المراحل الأولى من تكوينه وتغذيته.

www.kishtainiat.blogspot.com