هل نقامر بالمستقبل؟

TT

تواجه الولايات المتحدة والعالم من حولها، أكبر مشكلة اقتصادية ومصرفية خلال الـ80 عاماً الماضية، مما جعل الخوف والقلق ينتابان المواطنين في العالم اجمع، بغض النظر عن بلدانهم أو جنسياتهم أو ألوانهم، بشأن وظائفهم ومدخراتهم ومستقبل النظام الاقتصادي العالمي عموماً؛ فالبنوك والمؤسسات المالية العالمية تتهاوى مثل أوراق الخريف، وأسواق الاسهم في انهيار مستمر والمدخرات المالية للأفراد تنكمش قيمتها في كل دقيقة.

القلق من استمرار تفاقم الأزمة التي لا تزال تتفاعل عالمياً يصاحبه عجز اقتصادي أميركي لم نشهد له مثيلاً من قبل؛ فلأول مرة تفشل إدارة أميركية في تهدئة السوق واعادة الثقة فيه وإليه عقب الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في وجه العالم بينما جورج بوش غارق في مغامراته الخارجية وحروبه الاستباقية. فالحزب الجمهوري وادارة الرئيس جورج بوش لم يكتفيا بجر الولايات المتحدة إلى حربين بل أبيا إلا أن يضيفا إلى كاهل العالم والمواطن الاميركي والعالم معه انهيارا اقتصاديا هائلا سنظل نعاني من آثاره لأكثر من عقد من الزمن في الأقل.

في الديمقراطيات البرلمانية، تسقط الحكومات مثل هذه الحالات عبر حجب الثقة عنها في البرلمان، أما في الديمقراطية الأميركية الرئاسية فيكون القرار الأخير للمصوّت الأميركي في الانتخابات الرئاسية.. إذ صوت الناخب الأميركي في هذه الانتخابات سيكون له صدى عالمي. فانتخابات الرئاسة الاميركية الحالية انتخابات محلية الإدلاء وعالمية الوقع والصدى. وفي هذه الظروف الصعبة، يطالب الجمهوريون الناخب الأميركي بأن يمنحهم فرصة للاحتفاظ بالبيت الأبيض لفترة رئاسية ثالثة، فهل تحتاج الولايات المتحدة والعالم معها إلى رئيس جمهوري آخر يمارس أربع سنوات أخرى من الفلسفة الجمهورية اليمينية الحالية في السياسة والاقتصاد والشؤون العالمية والسياسة الدولية؟

يحاول المرشح الجمهوري جون ماكين ورفيقته سارة بالين، المتطرفة بسذاجة أو الساذجة بتطرف، اقناعناً بأن حزبهما الجمهوري الذي أوصل أميركا والعالم إلى ما هما عليه اليوم، هو الحل وأنه قادر على اعادة ترتيب البيت بعدما عاث فيه فساداً. وأن فترة جمهورية رئاسية أخرى هي الدواء المطلوب لأمراض ومآسي فترتين جمهوريتين تحت جورج بوش، بل لا يكتفي بذلك الادعاء، إنما يحاول بطريقة طرزانية استعراضية وقرارات ارتجالية فجة، الحصول على أصواتنا عبر محاولة اقناعنا من خلال قراراته ومواقفه بأنه الحل، وأن ما يحتاجه الناخب الأميركي هو الثقة به وبفريقه الجمهوري من المحافظين الجدد والقدامى، دون النظر إلى سجله المليء بالتقلبات المتناقضة في الرؤى والمواقف.

جورج ويل، الكاتب والصحفي المحافظ الشهير، له رأي آخر في هذا الأمر يشرحه في مقال له بقوله: «تحت ضغط الازمة الاقتصادية، تصرف أحد المرشحين الرئاسيين للرئاسة وكأنه لاعب جديد في دوري الدرجة الاولى، وهذا المرشح ليس باراك أوباما. لقد اظهر ماكين ضحالة واضحة وانقطاعا واضحا عن المبادئ والمعرفة، كلما تنظر في تصرفاته ترى الارتجالية وردود الفعل الشخصية وتهوراً مندفعاً، بعيداً عن الهدوء والتعقل المرتبط بالمبادئ، فهو لا يمتلك الصبر ولا الاستعداد لأيٍّ منهما. قد لا يكون باراك اوباما بسبب خبرته جاهزاً للرئاسة، ولكن ماكين بصفاته وممارساته لا يصلح للرئاسة، فعدم الجاهزية أمر يمكن معالجته بثمن غير رخيص عبر اكتساب الخبرة، ولكن هل يمكن معالجة المزاجية المتقلبة المتهورة؟». إن عالم القرن الواحد والعشرين يختلف عن العالم الذي يراه الجمهوريون؛ وعلى رأسهم ماكين. فهو وهم لا يزالون ينظرون للعالم من خلال ثقب الحرب الباردة والرأسمالية غير المسؤولة والرؤية الدينية التي لا تختلف في بعض جوانبها عن أفكارالمتطرفين في كهوف افغانستان.

إن الزمن والحدث كلاهما تجاوز الحزب الجمهوري وفلسفته، فعالم القرن الواحد والعشرين يختلف عما قبله، فهو عالم مليء بالفرص والتحديات والمجهول في نفس الوقت. هذا العالم الجديد يحتاج إلى رؤى وآليات وسياسات وقيادات جديدة. القرن الواحد والعشرون هو عصر العولمة المتشابكة والمصالح المترابطة والثقافات المتماسّة. عالم الآنية والتقارب الجغرافي والتقني، عالم (نحن جميعاً) وليس عالم (نحن وهم)، عالم اصبح فيه الآخر والأنا شيئاً واحداً.

عالم تشكل فيه المخاطر البيئية والأخطار الطبيعية تهديدات لا تقل عن التهديدات العسكرية والإرهابية. عالم اصبح أثر الفتوى المسموعة أو المكتوبة فيه بقوة السلاح النووي والمواقف العقيدية والدينية المتصادمة تشكل خطراً لا يقل عن الصواريخ عابرة القارات واسلحة الدمار الشامل. عالم يعاني من غياب التوازن البيئي بين أحياء هذه الأرض من بشر ودواب ونبات. عالم اصبحت فيه فكرة الحلول البسيطة والممارسات المنفردة أمراً مرفوضاً وغير ممكن. عالم لا يمكن أن تحكمه قوة واحدة مهما أوتيت من قوة ومن رباط الخيل أو التوماهوك أو طائرات الشبح. عالم اصبح فيه مصطلح حدود القوة أمرا واقعا وليس نظرية سياسية نظرية فقط. عالم تجاوز احدثيات الدولة القطرية وانطلق في فضاءات ما بعد القطر والاقليم والجغرافيا. عالم هذه خصائصه؛ يحتاج إلى قيادة جديدة ليست حبيسة التاريخ أو النظرية أو الخبرة التقليدية. فالخبرة المتراكمة، وإن كانت طويلة قد لا تكون سوى خبرة عام واحدة متكررة لسنوات طويلة.

في فترة حرجة مثل التي تعيشها الولايات المتحدة ويعيشها معها العالم يصبح أمر تجربة الوصفة القديمة وتوقع نتائج جديدة أمراً ليس غبياً وعقيماً فحسب بل يعد جريمة ترتكب في حق الاجيال القادمة في العالم أجمع، كما تصبح فكرة المقامرة بالمستقبل عبر العيش في الماضي أمراً لا يقبله عاقل ولا ترضى به أمة.

صوت المواطن الاميركي في انتخابات هذا العام ليس ملكه وحده ولا يخصه هو فقط، بل هو ملك للعالم كله. إنه يحمل امانه الاختيار ويحمل عبء ومسؤولية العالم معه في نفس الوقت. انه لا يصوّت لنفسه ومن أجلها فقط بل يصوّت من أجل البشرية جمعاء.

مرحباً بكم في القرن الجديد، في عالم العولمة والاعتماد المتبادل حيث أن لكل صوت أثراً في العالم.

* كاتب أميركي

من أصل ليبي

[email protected]