الدجال الأكاديمي.. واستعادة حقوق التأليف والنشر

TT

في مداخلة مارك طومسون، المدير العام للبي بي سي، هذا الأسبوع في محاضرة اللاهوت العامة السنوية لمعهد الاديان Theos (خزانة تفكير في الدراسات الدينية)؛ اعترف، بشكل غير مباشر، بوجود رقابة ذاتية في التعامل مع الاسلام، ردا على انتقادات بان الهيئة لا تتعامل بالتحفظ نفسه مع الاديان الاخرى سواء الابراهيمية (التي يعرفها العرب يالسماوية) او غيرها.

هناك مئات من اديان اخرى يمارسها الناس حسب احصاءات وزارة الداخلية سيشعر اتباعها بالتفرقة والغضب تجاه المسلمين بسبب تمييز البي بي سي رسميا للاسلام واستثنائه من الانتقاد المحايد الموضوعي في مجتمع يقدس حرية التعبير والنقد، وبالتالي يعاملونهم بحذر كاشخاص لا يسمح دينهم بحرية الرأي.

تصريح طومسون فيه اهانة للمسلمين، اذ يترجم الى «معليش، فلناخذ المسلمين على قد عقلهم» وكانه يتعامل مع مراهق دون سن الرشد لا يمكن التكهن بافعاله عند استفزازه.

نظرة طومسون وامثاله من الساسة والمشرفين على الاعلام تعطي الانطباع بان الاسلام يفتقر الى القدرة الفلسفية على الاقناع، وبفقدان المسلمين للثقة بالنفس معنويا insecure وبقدرتهم على خوض مناقشة فلسفية كالعقائد الاخرى.

ولان الاعلام ـ في اي مكان وليس في بريطانيا ـ لا يستطيع مقاومة اغراء اظهار المتطرفين المثيرين للجدل، فيقدم نماذج من امثال مرتكبي جريمة 7 يوليو، وهم تلاميذ ائمة تخرجوا من مدارس الطالبان ويعتقدون ان الارض مسطحة وليست كروية.

دورهم في المجتمعات الاسلامية الاسيوية المغلقة على نفسها مثل المشعوذين الدجالين في الافلام البيض والاسود القديمة – ولعبها باقتدار ممثلين كتوفيق الدقن، وعبد المنعم ابراهيم، وعبد الغني قمر، وأمين الهنيدي.

يحتال المشعوذ الدجال على العروس الشابة الجاهلة المتلهفة على الحمل خشية لسان حماتها، بترديد ايات قرآنية خارج سياقها اللاهوتي، ويسلب الشابة ارادتها وهو يردد اسماء الله الحسنى، ثم يسلب مصوغاتها ومدخراتها ـ وربما يستغلها جنسيا ـ ويقنعها بان «العيب ليس فيها» وانما عفريت وقع في غرامها فسد رحمها أمام الحمل.

ولو كانت استشارت طبيبا بدل الشيخ المشعوذ لكان شخّص حالتها وأعطاها حقنة بنسلين لمعالجة التهاب عرقل خصوبتها او حقنة هرمونات تنظيم دورتها الشهرية.

تناول المفكر الأمريكي المصري المولد، الدكتور مأمون فندي ظاهرة عدم استرداد فلاسفة وعلماء الدراسات الإسلامية قضايا دراسة تاريخ الإسلام وثقافة المسلمين، حقوق النشر والتاليف copyrights من أكاديميين غربيين يدعون التخصص في التاريخ الإسلامي.

وكثير منهم نسخ منقحة من المشعوذين الدجالين الذين قدمتهم السينما المصرية. بعد 11 سبتمبر ينفق العرب والمسلمون، حكومات، ورجال أعمال، الملايين على مؤتمرات وصحف وفضائيات ومراكز دراسات ملحقة بجامعات ومشاريع باسماء قرآنية كالواحة والينبوع، وزمزم واشجار النخيل والتين والزيتون.

الهدف على ما يبدو ليس استعادة حقوق النشرcopyrights للمسلمين كما نادى الدكتور فندي وانما تلميع الصورة الشخصية لرجال الاعمال والساسة كدعاة للسلام تلتقط صورهم مع الزعماء الاوروبيين او في حفلة عشاء في داوننج ستريت او البيت الأبيض ليعلقوها في إطارات مذهبة على جدران مكاتبهم.

عهدوا برئاسة تحرير الصحف والفضائيات وإدارة خزانات التفكير أو دعيوا، للجلوس على كراسي الاستاذية الجامعية التي يمولونها سنويا، النسخ الغربية الجذابة البريق من المشعوذ الدجال الذي صوره توفيق الدقن باتقان في فيلم «درب المهابيل» بدلا من تكليف المتخصصين من الاطباء القادرين على فهم اسباب مرض الثقافات الاسلامية لمجتمعاتها. صحيح ان كثيرا من الاكاديميين المستشرقين درس كتبا لتاريخ المنطقة، وقدموا رسائل ماجستير في أحداث تاريخية من وثائق بلدان اوربية ـ فالتوثيق المفهرس لا وجود له في معظم بلدان الشرق الاوسط ـ او درسوا اللغة العربية الفصحى من الكتب الادبية لكنهم لا يفهمون المغزى الثقافي العميق او معاني اللغة الحية التي يتحدثها الناس في الشوارع والاسواق والمقاهي والحواري التي تتطور يوميا وتختلف تماما عن لغة الكتب الفصحى الجامعية.

قبل سنوات نجح طبيب بريطاني في نقل مريضه، الثري العربي الى مستشفى الدكتور السير مجدي يعقوب أشهر وانجح جراح قلب في العالم، لاجراء جراحة معقدة لا يقدر عليها غيره. وفور سماع المريض الثري السير مجدي يتحدث بالمصرية أثناء فحصه، هاج وطلب طرده قائلا «عنا منه كثير.. ليش كنت باجي لندن؟»

تذكرت الحكاية اثناء لقاء قبل ثلاثة اعوام بصديق قديم كثيرا ما طلب مشورتي اثناء تعامله مع ازمات معقدة عندما كان سفيرا لبريطانيا. وعمل بعد تقاعده مديرا لمؤسسة ثقافية اسلامية عالمية يمتلكها مليونير عربي شهير. اختلف مع السفير السابق وطرده عندما اكتشف ازدواج ولائه لعمله مستشارا لحاكم عربي منافس لحكومة بلاده. حاول السفير السابق اقناعي بالعمل مستشارا لتستفيد المؤسسة بخبرتي. هذه المؤسسة تنفق الملايين لتوظيف عشرات البريطانيين والأمريكيين (لا يجاهرون أبدا بانتمائهم لها وانما يذكرون انتسابهم لمعهد أمريكي أو مؤسسة أوروبية أثناء المؤتمرات او عند الظهور في التلفزيون).

تكررت حادثة السير مجدي يعقوب؛ فالمليونيرات والمسؤولون العرب يفضلون مستشارين باسماء مثل: جوناثان، ومايكل، وستيوارت، وهيذار، على اسماء مثل عادل درويش، ومامون فندي و يوسف ابراهيم واشرف عيسى رغم توظيف الاعلام البريطاني والامريكي والجامعات الغربية وحتى الخارجية البريطانية للاسماء الاربعة الاخيرة لتفوقهم في مجالات تخصصهم على جوناثان وستيوارت وتفتخر بتمثيلهم لبريطانيا او امريكا في المؤتمرات العالمية. ومثل اقناع الدجال للشابة العاجزة عن الانجاب في الافلام المصرية بان العيب ليس فيها وانما عمل العفريت الذي غرم بها، او ان العيب في زوجها نفسه وهناك سحر خاص لشفائه؛ فان البروفيسرات، باسماء انغلوساكسونية ولاتينية، فوق كراس اكاديمية تمولها مؤسسات وحكومات عربية لا تشخص تقاريرهم المرض الحقيقي للمجتمعات الاسلامية اليوم، لكنهم يصبون في اسماع مموليهم «ان العيب ليس فيهم» او مجتمعاتهم او فساد انظمتهم او نظام تعليم بلادهم الذي يفرز من يستغل الاسلام لتحويل الشباب لقنابل انتحارية، وانما العيب في شياطين تسكن رحم الصحافة الغربية فتلد ما يعادي الاسلام او في اعلام تسيطر عليه ارواح شريرة اسمها «الصهيونية». وكطلب المشعوذ الدجال سوار ذهب 24 يخنق بها الشيطان الذي سد رحم الزوجة المسكينة يطلب هؤلاء البرفيسرات سوارهم الذهب في شكل تمويل مؤتمرات ومشاريع ودعاية ـ يتولى ابناؤهم او شركاتهم تنفيذها طبعا ـ لخنق شيطان يسد رحم الاعلام عن انجاب ما يحسن صورة الاسلام.

ولو احتل الكراسي الاكاديمية متخصصون في الحالة باسماء غير لاتينية ـ اي المقابل للسير مجدي يعقوب كل في مجال تخصصه ـ لتمكنوا بمواهبهم من تشخيص الحالة.

مشكلة التطرف ليست في جوهر الدين وليس «العيب» في الاعلام الغربي، كما يدعي بروفيسرات الشعوذة والدجل وانما هي اعراض مرض مزمن في المجتمعات الاسلامية نفسها، يجب تشخيصه على يد المتخصصين، وليس عبر دجل المشعوذين، حتى لو حملوا احدث الاجهزة الدقيقة Made in USA وارتدوا معاطف بيضاء ببطاقات تحمل اسماء انغلوساكسونية.