(بارات) الصحة أولا: الماء

TT

في أوروبا وأمريكا واليابان هناك ما يشبه (الهوَس) بالحفاظ على الصحة ـ وهذا ما يحمدون عليه ـ لذلك شنوا في العقد الأخير حملة لا هوادة فيها على التدخين الذي لوّث الجو وأمرض الصدور، وكذلك ضد الخمور ـ والعياذ بالله ـ لأنها تذهب بالعقول، وأخذت (البارات) التي تقدم هذه المشروبات الضارة تتناقص وتحل محلها تدريجيا ما يسمى بالبارات الصحية، كبارات (الماء)، و(الحليب)، و(الأوكسجين)، وسوف نتناول بالحديث ابتداء من اليوم السبت، إلى الاثنين، فالأربعاء، هذه (العناصر الصحية) كل على حدة، واليوم نبدأ بالماء.

وقد هفّتني نفسي ودخلت أحد بارات الماء. استقبلني صاحب البار بترحيب جيد، وجلست أمامه على الكرسي المرتفع الدوار، مثل أي (صقر على وكره).

سألني: ما هي طلباتك، ماذا تريد أن تشرب؟!

ـ هات ما عندك، لكن قل ما هي الأنواع التي أشاهدها أمامي؟!

أخذ يشير إلى (القوارير) الكثيرة المرصوصة خلفه على الرفوف ويقول: انظر إلى هذه فهي من مياه (اسكوتلندا) النقية، وهذه جلبت من بحيرة في (فنلندا)، وهذه من قمة جبال (الروكي) في أمريكا، وهذه من أعمق مغارة في البرازيل، أما هذه فهي مياه معدنية من قرب (بادن بادن) في ألمانيا، وعليك أن تشربها بدرجة حرارة في حدود 40 درجة مئوية، وهذه المياه التي تشبه دمعة العين، إنما أتي بها من بحيرة من (سانت موريس) في سويسرا، وهذه من (نيوزيلندا)، أما هذه فهي مشبعة (بالصودا) لمن لهم مزاج خاص في شرب المياه، وعليك أن تشربها باردة ومخلوطة بقوالب الثلج وتطفح على سطحها زهور (الغلادوليا). واسترسل يعدد وأنا (فاغر) فمي أستمع مذهولا إلى هذه المعلومات، وأمسك بزجاجتين بيديه وسألني: هل تدري من أين أتينا بمياه هاتين الزجاجتين؟!، هززت رأسي علامة النفي، فقال: طبعاً لا تدري ولا يمكن أن يخطر على بالك، لقد جلب ماء هذه الزجاجة يا سيد ـ وأخذ يهزها أمام وجهي وكاد يخبط بها خشمي ـ وقال: لقد جلب ماؤها بواسطة طائرة (هليكوبتر) من سحابة تساقطت منها الأمطار قبل أن تصل إلى الأرض، وهذه الأخرى جلبوها بواسطة (غواصة) من أعماق البحار، حيث توجد بعض تيارات المياه العذبة الحلوة.

قلت له: آمنت بالله، ولا أشرك به أحداً.

قال: وهذه جلبت من بئر حفرت قبل ثلاثة آلاف عام في منطقة (الطوارق) بالصحراء الكبرى. ثم مدّ يده وأحضر قارورة لون مائها أخضر وقال: هذا ممتلئ بالطحالب النافعة. وسكب قليلا منه في كأس ومدها لي لكي أتذوقه، لكنني رفضت وكدت أستفرغ، ضحك ولكي يطمئنني ما كان منه إلاّ (قربع) الكأس في بطنه دفعة واحدة، ثم أشار لزجاجة بعيدة وقال: هذه من جبال (الهملايا)، ولكن بما أنك من الشرق الأوسط فإنني أنصحك بهذه المياه التي جلبناها من نهر (الليطاني) بلبنان، على أن أخلطها بقطرات من هذه الزجاجة التي تحتوي على مياه من (البحر الميت) لكي تكون نكهتها أطيب، والجالس هناك يشرب منها هو من العرب.

قلت له: الحمد لله أن هذا الماء من الليطاني وليس من نهر الكلب، اسكب لي كأساً لكي أستعيد به ذكرياتي بلبنان، ولكن أرجوك بدون قطرات البحر الميت. وعندما سمع كلامي ذلك الزبون حتى نظر لي بعين ثقيلة، وسألني بلسان أثقل وقال: الأخ عربي؟!، أجبته: نعم، فصاح بي رافعاً كأسه: (تشيرز)، ولم أفهم، فقال: (تشن تشن)، ولم أفهم، وقال: (سالوتي)، ولم أفهم، فصاح بي بصوت مرتفع قائلا: في صحتك يا بقم، عندها فهم (البقم) وشرب كأسه وحاسب وانصرف.

وأخذت أردد بيني وبين نفسي وأنا خارج ما قاله البدوي: إن عدتك يا مكة فمكيني.

وإلى اللقاء يوم الاثنين المقبل مع (بار الحليب) ـ فانتظروني ـ.

[email protected]