بيريز يغري العرب بإلغاء الرقم الفلسطيني

TT

اليهودي الجاهل بالعرب أقل خطرا عليهم من الاسرائيلي العارف بهم. شمعون بيريز يهودي خطر. فهو يعرف مكمن القوة والضعف عند العرب. هو قادر دائما على تحليل الشخصية والنفسية العربية، وإمطارها بوابل من مبادرات واقتراحات ومشاريع، تتفق مع المزاج العربي العام، ومع المصالح والغايات الاسرائيلية، وتنسجم مع الظروف التي يراها مناسبة لطرحها.

كانت سورية ولبنان ساحة أول احتكاك لبيريز مع العرب. فقد أوفدته المخابرات البريطانية مع ندِّه موشي دايان، في مطلع الأربعينات، إلى هذين البلدين. كانت مهمتهما استطلاع الوضع فيهما، كمقدمة لدخول القوات البريطانية، وطرد قوات حكومة فيشي الفرنسية الفاشية الحليفة لالمانيا النازية، كان الغرض الاستراتيجي حماية ظهر القوات البريطانية في مصر، المهددة بزحف قوات المارشال رومل عبر الصحراء الغربية.

عندما هندس دافيد بن غوريون الدولة الاسرائيلية (1948)، اختار رجال ادارته من شباب منظمته الإرهابية (هاغاناه). علق النجوم والنياشين على أكتاف وصدور أمثال رابين ودايان وعازر وايزمان، لكن ترك زميلهم بيريز «مدنيا» في منصب الأمين العام لوزارة الدفاع. في هذا المنصب الرفيع، بنى بيريز بالتآمر مع أوروبا القنبلة النووية الاسرائيلية، كرادع وكحل «نهائي» مع العرب.

حيَّد التلامذة «المعلم» بن غوريون عندما أيقن استحالة صنع السلام مع العرب بقوة الحرب. طردوه من زعامة حزب العمال. ومن الحكم. ثم طُردوا هم أيضا بعد المفاجأة المصرية/السورية لاسرائيل في حرب أكتوبر.

لم يستحِ «الاشتراكيون/ دايان وبيريز ورابين من الدخول في ائتلافات حكومية مع حزب اليمين، بزعامة الارهابي مناحم بيغن، خطف الموت دايان ثم بيغن. لكن التحالف الانتهازي ظل قائما طوال الثمانينات. لم ينفرط العقد الا بعدما نجحت الانتفاضة الأولى في جر اسرائيل الى أول لقاء رسمي مع عرب الجامعة، في مؤتمر مدريد باشراف «المايسترو» جيمس بيكر.

تم الالتفاف على التفاوض مع العرب بجرِّ عرفات ومحمود عباس إلى أوسلو. كان بيريز عراب مصالحة اوسلو مع الفلسطينيين. الغريب ان بيريز الذي فقد مصداقيته لدى الاسرائيليين، ظل موثوقا لدى الفلسطينيين. من سوء حظ عرفات ان بيريز فقد منصة الحكم، بعدما حكم غلاة اليمين الاسرائيلي بالموت على شريكه اللدود رابين.

مع تناوش نيتانياهو وباراك وبيريز وأولمرت كعكة الحكم، دخلت المفاوضات الثنائية المباشرة مع الفلسطينيين والسوريين في متاهات اسرائيلية، للتسويف وإضاعة الوقت، وإتاحة الفرصة لتهويد القدس، وإحكام استعمار الضفة، بعد التخلي عن غزة. هناك اليوم ربع مليون يهودي في الضفة، فيما خُنقت القدس العربية بالجدران والأسوار.

منذ عام 1982 إلى عام 2002، تبنى العرب مبدأ سعوديا مختصرا كحل «الأرض في مقابل السلام». كان الغرض السعودي تشجيع اسرائيل على التوصل إلى اتفاقات مباشرة مع أصحاب الأرض المحتلة، مع الفلسطينيين والسوريين أساسا. لكن اسرائيل أحبطت كل المفاوضات الثنائية التي قامت على مبادرات ميتشل، وخطة الطريق، وأنا بوليس...

ضيعت اسرائيل فرص سلام حقيقي. لكن كسبت الوقت. كانت المفاوضات الثنائية بمثابة مظلة واقية لـ «ماكينة» الاستيطان والتهويد. أخيرا، فرغت الجعبة الاسرائيلية من الخداع والتسويف. هي الآن بحاجة إلى حيل جديدة للاستمرار في اللعبة ذاتها.

اسرائيل اليوم تعيش حالة فراغ سياسي وتفاوضي. يغيب عَرَّابا المفاوضات الثنائية: شارون يُحْتَضَر منذ ثلاث سنوات. أولمرت جثة سياسية غارقة في اتهامات الفساد. ليفني ربيبة الموساد تتعثر في تشكيل الحكومة. حزب شاس (يهود يحملون جنسيات عربية!) يرفضون التخلي عن القدس العربية. نيتانياهو عراب الرفض على الأبواب. ينتظر الانتخابات لصعود منصة الحكم.

في هذه الظروف الاسرائيلية «الفراغية»، يتقدم لاعب الكُرات بيريز، من خلال منصبه الرئاسي الرمزي، لتعويم اللعبة. الغرض التكتيكي تجنيب إسرائيل «ويلات» السلام، وانتظار نتائج الانتخابات الأميركية، واستغلال الصراع العربي /الايراني، لتعميق الخلاف بين العرب، بتعجيزهم في الاتفاق على تفاصيل السلام.

بيريز بائع يهودي شاطر. قادر دائما على تغطية سلعته بلفائف براقة. بعد طول إعراض ورفض، تستدير اسرائيل بيريز نحو العرب! الحل في «تعريب» المفاوضات. الحل في القفز فوق الرقم الفلسطيني والسوري! الحل في التطبيع مع العرب. بيريز ليس «العاشق» الوحيد. تسيبي ليفني لم تترك فرصة إلا وحاضرت «عرب الأطراف» عن محاسن التطبيع.

ذهب بيريز إلى الرئيس مبارك مباشرة. مصر يمكن ان تكون جسر العبور الى السعودية، بحكم التنسيق بين أقوى دولتين عربيتين. ثم أليست السعودية هي مركز الثقل السياسي والمادي في العالم العربي؟ يمكن، إذن، اغواؤها مع مصر، بقبول المبادرة السعودية ذاتها.

عرضُ بيريز بـ «تعريب» المفاوضات قوبل بفتور مصري واضح. قال له مبارك ما معناه ان المبادرة السعودية مبدأ عام. ليست حلا تفاوضيا. هي مجرد ضمان والتزام، تبنّاه العرب جميعا، بالسلام إذا ما أسفرت المفاوضات الثنائية على اتفاق نهائي، بتسوية الخلافات حول الأرض والحدود والمياه والعودة والاستيطان والقدس، مع أصحاب العلاقة المباشرة، مع الفلسطينيين والسوريين.

لا شك ان الاغراء الاسرائيلي قوي. الفخ محكم النصب. بصراحة أقول إذا كانت بعض «دول الأطراف» في العالم العربي ترحب ضمنا أو علنا، وربما مهدت سرا للتعريب، فأعتقد ان القيادة السياسية السعودية من الحذر والوعي، بحيث هي قادرة على تفويت الغرض الاسرائيلي من تعجيز التعريب بـ «التعريب». السعودية تدرك تماما المسؤولية التاريخية والقومية التي تترتب على أية دولة بمكانتها الدولية وبثقلها العربي، اذا ما أقدمت مباشرة على الدخول مع عرب آخرين في ترتيبات تفاوضية بالنيابة عن أصحاب الحق المباشر.

بيريز دارس تماما للظروف والمزاجيات والاتجاهات العربية الراهنة. غرضه الاستراتيجي من «تعريب» المفاوضات اغراق العرب في متاهات التفاصيل الشائكة. يعرف ان الانقسام العربي الراهن، ومسايرة سورية و«حماس» لايران في معارضتها ومزايداتها على العرب في قضية فلسطين، كفيلان بتقويض أي حل عربي.

كسبُ اسرائيل واضح من الاستدارة نحو «التعريب» الخادع. سوف تكسب اسرائيل الوقت اللازم للتمكين أميركيا ودوليا لـ «شرعية» الزحف الاستيطاني الجديد، ولدفع مسؤوليتها عن اعاقة مسيرة السلام، بإلقاء المسؤولية على العجز العربي، بعد العجز الفلسطيني. بل يكون الحرج والخطر كبيرين للعرب، إذا ما فاوضوا اسرائيل، فيما قد تقوم هي بمغامرة قصف ايران وحدها أو مع الولايات المتحدة.

لا شك ان الخلاف العربي حول قضية السلام مع اسرائيل هو، في رؤيتي، صراع بين الآيديولوجيا السورية / الفلسطينية، والاستراتيجية العربية العامة.

آيديولوجيا التزمت في فلسفة النزاع مع اسرائيل أدت مع الوقت الى خسائر كبيرة في الأرض وتآكل في الحقوق.

الاستراتيجية العربية باتت تدعو إلى قبول التحدي: القبول بالسلام. لكن ليس بأي ثمن. ليس بتمكين اسرائيل من التطبيع مع العرب بتجاوز الرقم الفلسطيني/السوري، وفتح الأسواق العربية مجانا أمام السلع والتقنيات الاسرائيلية، أي ما يسميه الماكر المخضرم بيريز بـ«التعاون الاقتصادي».