صداع الموسيقى

TT

كل شيء يقود الى كل شيء! هذا في البدء لمن قد يستخفون بأثر الموسيقى في «كل شيء».

جاءنا هذا الخبر: الفنان السعودي الأشهر محمد عبده يقول في الاحتفال الذي نظمه مستشفى الصحة النفسية بجدة، أول من أمس، بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية: «إن للموسيقى تأثيرا كبيرا في علاج الأمراض النفسية، والعلاج باستخدام هذه الوسيلة ينتج عنه شخص معتدل».

اعتمدت هنا في إيراد كلام المطرب الفنان محمد عبده على صيغة الخبر كما ورد في صحيفة «الشرق الأوسط» أمس، وإلا فقد وجدت صياغات أكثر إثارة ربما لمشاعر كارهي الفنون والموسيقى.

أظن أن هذا التصريح سيكون مقدمة لزوبعة إعلامية واجتماعية ضد الفنان محمد عبده؟ لأنه مشهور ولأنه قال كلاما مخالفا للسائد في الخطاب الديني الذائع الآن، ولأن هناك جمهورا مستعدا للاصطفاف دوما خلف مثيري الضجيج والغبار حول أي صوت لا يتناغم مع صوتهم، ووصفتهم في صياغة المجتمع وتحديد اتجاهاته وأذواقه وممنوعاته ومسموحاته.

دوما كان الموقف من الفنون إشكاليا وملتهبا في وسطنا الثقافي وليس الديني فحسب، ذلك أن الفنون، وعلى رأسها الموسيقى والتمثيل، تعتبر وسيلة تواصل فعالة مع الشعور العام، حيث تتسرب الموسيقى لدواخل القلب وتفعل الكلمات التي تغنى في الأغاني فعلها في التأثير على مشاعر المستمعين، كما الشأن مع النص الممثل، ويتحول المغني والممثل إلى أيقونات محبوبة لها جمهور عريض، الأمر الذي يعني تحول الفنان إلى فاعل اجتماعي وسياسي، إن هو رغب وامتلك الأدوات اللازمة، وهذا ما يفعله مشاهير الفن في الغرب، ويحاول فعله بعضهم في المنطقة العربية.

لكن هل يترك الفاعلون الاجتماعيون والسياسيون الساحة لهؤلاء المزاحمين بدون تدخل، خصوصا لدينا؟

الذي حصل ويحصل منذ حوالي ثلاثين إلى عشرين سنة هو محاولة اقتحام هذا المجال، وتسخير رموزه إلى الصياغة المجتمعية للأحزاب الأصولية ومن يدور في فلكها، كان الأسلوب الأول المتبع هو أسلوب المنع والزجر وتشويه الفنون، وإغلاق الباب بالكامل في وجه الفنانين أمام الاعتراف الشرعي الاجتماعي، فتحول الفنان إلى «بائع ممنوعات جمالية»، أتحدث هنا بالتحديد عن فترة الذروة في الهيجان الديني في العشرين سنة الماضية، ولكن وبحكم تجذر الاحتياج الإنساني إلى الفن والموسيقى على وجه الخصوص، من مرحلة هدهدة الطفل إلى تنغم العواجيز الهادئ! لم يجد هذا الأسلوب الصارم نفعا في منع الناس من طلب الموسيقى والبحث عن أغنيات الفنانين، وإن أجدى في تخويف بعض الفنانين وتحويل مجرى أعمالهم وكلماتهم باتجاه مغازلة هذا الرقيب الجديد حتى يرضى عنهم، فلاحظنا بعض الفنانين يتحول إلى ما يشبه المنشد لكلمات تساند توجه هذه التيارات والقوى الأصولية، وربما يكون في داخله غير متحمس لها لكنه يفعلها إما خوفا من الحرق الاجتماعي أو طمعا في هذا الجمهور الجديد. على كل حال ظل بعض الفنانين متمسكين بشروط الفن الداخلية غير آبهين بهذه الهجمات التشويهية، ولكن بعد ثورة الفضائيات وتعدد المنابر والمنصات واعتقاد بعض أذكياء الأصوليين أن أسلوب المنع الصارم لم يعد كافيا، أو ربما أن الهجمات الماضية كافية في تهميش المنافسين وتخويفهم، بدأنا نرى بزوغ لون جديد من «الفن الإسلامي» وحتى «الراب» الإسلامي و«الهب هوب» الإسلامي والكليب الإسلامي... وتطور الأمر إلى أن يكون مصحوبا بآلات موسيقية، حتى لا تكاد كمشاهد ومستمع تفرق بين ما هو الإسلامي وغير الإسلامي في الأغاني وطريقة تصويرها إلا إذا دققت قليلا في الكلمات لتكتشف أن الإسلامي هو الذي يركز في كلماته على مدح الفتاة غير اللعوب أو يغني في بر الأم ومحبة الله، وهي بكل حال أغراض فنية مطروقة من قبل، فقد غنت أم كلثوم عن مشاعر المؤمن وهو سائر الى «عرفات الله»، وغنت فايزة أحمد الأم في «ست الحبايب»، وهكذا.

مسألة الموسيقى والفنون مسألة لم تسلم من الحرب السياسية الاجتماعية، ومن المشروع الخالد للأصوليين في إعادة تشكيل المجتمع بشكل كامل، ولو استدعى الأمر تقديم بعض التنازلات وممارسة بعض المناورات بأقصى ما يمكن، لكن مع فكرة المعالجة النفسية بالموسيقى لا أدري ما هي حدود المناورة في التقبل؟ أم أن الحل سيكون بالمواجهة والتشويه، خصوصا ان إشهار تهمة الضلال والفسق كافية لجلب جمهور:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا!

الحق أن حظ الفنون والموسيقى في السابق، رغم جفاف كثير من الفقهاء وليس كلهم، كان أفضل من حظها في عصر الترهيب الأصولي العام، لا أتحدث عن عصر أم كلثوم وفريد الأطرش أو عبده الحامولي وغيرهم، أو عن عصر عوض دوخي وعبد الله فضالة في الكويت، وفوزي محسون ومحمد سندي وغيرهم في السعودية. لا أتحدث عن هؤلاء فيومهم للتو انصرم، إنما عن عصور ماضية قديمة يوم كان الفيلسوف الفارابي يدخل مجالس أمراء بين حمدان وهو يعزف على آلته الموسيقية فينقل المجلس من مزاج الحزن إلى الضحك إلى الاسترخاء، وهو متربع في مجلسه في قصة شهيرة يرويها المؤرخ ابن خلكان. يومها كان للفنون نصيب ـ على شحه ـ أطيب وأزكى من نصيبها في هذا العصر المشوه، بل إن هناك فلاسفة وأطباء من أسلافنا سبقوا الكثيرين في الحديث عن تأثير الموسيقى في علاج العلل النفسية، أمثال الكندي وابن سينا وابن النفيس، ويتحدث المؤلف الطبي الشهير صاحب كتاب التذكرة، داود الأنطاكي (توفي 1600 مـ) عن علاج التسلي عن الهموم بسماع الأصوات (يعني الغناء) والآلات الحسنة، وأشار إلى استخدام الموسيقى في علاج الجنون، كما جاء بتوسع في بحث العلاج بالموسيقى في الطب العربي (عبد الناصر كعدان، ميس قطاية).

بل إن تحريم الموسيقى والغناء تطور في عصرنا من كونه خلافا فقهيا عاديا، كما قالت دار الفتوى المصرية بالنص: «سماع الموسيقى مسألة خلافية ليست من أصول العقيدة، وليست من المعلوم من الدين بالضرورة، ولا ينبغي الإنكار بسبب تلك المسائل الخلافية». إلى كون الموقف من الموسيقى والفنون ـ لاحظوا أننا نتحدث عن الموسيقى وليس عن التعري! ـ هو موقف من الفضيلة والإسلام نفسه، فبقدر انصياعك لوصفة الأصوليين وأشباههم للفضيلة والعفاف والترفيه، بقدر ما تنال درجة استحقاقك للاحترام والاعتراف الاجتماعي!

إننا حينما نولي الموقف من الفنون هذا القدر من الاهتمام فليس ذلك بنابع من انشغال ترفي بهوامش الأمور، لا، بل إن وضع القيمة الجمالية في هذه الدرجة من الاتهام أو التمتع الخفي، كمن يواعد امرأة خاطئة بالسر، هو دليل على نقطة موقعنا على السلم الإنساني والحضاري، وبغياب الاحتضان الاجتماعي والتقدير العام للفنون، التقدير الحقيقي، تصبح المساحة خالية للقبح أو لأنصاف الفنانين المشوهين. وكم هو عاجز عن الإحساس بالمجتمع الإنساني ومعاني الأخوة الإنسانية وقيمة التسامح، ذلك الإنسان الذي يحارب نغمة الناي ورنة الوتر، أو ذوبان الممثل في تجسيد شخصية مكتوبة بعمق يصل إلى قيعان النفس الإنسانية التي تدور بين قطبي الخير والشر طيلة دبيبها على هذه الأرض.

في اللحظة التي نحترم فيها الفن ونقدره ولا نضعه موضع «المأكول المذموم» ونصعد به من درك الاستهانة إلى ذروة الجمال والتقدير، في هذه اللحظة نكون قد وفرنا عاملا ضروريا يهيئ لنا الأرض لتستقبل بذور الجمال والتسامح وتلفظ أعشاب التعصب والجفاء الضارة... ولأن الأمر ما عاد كذلك الآن، فمن الطبيعي أن يصبح محمد عبده بكلامه هذا وحيدا في مهب الريح، ولن يلام لو «صحح» أو اعتذر، أو «وضح» غدا...

[email protected]