في الطريق إلى القمر

TT

عندما أفقنا على العالم كانت للهند صورة واحدة، أو بالأحرى رسم كاريكاتوري واحد: فقير هندي يفترش خشبة مزروعة بالمسامير طوال أربعين يوما. لا يقوم، لا يأكل، لا يذهب الى السينما ولا يحضر مباريات كرة القدم. وكان ذلك دليلا على الصبر والتوازن النفسي. لكنه في الحقيقة كان أيضا دليلا على انه اذا قام فليس معه ثمن ما يأكل ولا ثمن تذكرة الى السينما أو الى الملعب البلدي في كالكوتا. كان هناك فقر على مدى الولايات في بلد أسطوري بلغه الاسكندر وطلبه كريستوفر كولومبوس وضمه البريطانيون الى سلطة التاج. لكن الطبيعة تبدع والزمان يدمر، كما يقول المعتقد الهندي. وهكذا تحولت الهند مع السنين من دولة الفلسفة والرياضيات الى قارة الفقر. وكان البقر هو مصدر النمو الوحيد طوال عهود. لبنها ضمن التكاثر المستديم. وقوتها حرثت الأرض. ولذلك حرم أكل لحمها ولبس جلودها وكانوا يتبركون بروثها. ولكن في بلاد تقديس البقر كانت الأرامل يحرقن أحياء، فلا داعي لبقائهن بعد وفاة المرحوم. تلاقت الحضارة العربية بالحضارة الهندية في أكثر من مرحلة. نقلنا اليهم حضارة اليونان. اخترعوا الأرقام التسعة فاخترعنا الصفر. ولا نزال. أخذوا عنا علم الجبر، أي ملاءمة التركيب، ولم نترك مكانا لملاءمة في شيء. قبل عقود كان جواهر لال نهرو معجبا بتقدم مصر وبحزب الوفد ثم بجمال عبد الناصر. وطلب التحالف مع العرب في الحرب على الاستعمار والتخلف والعبودية.

الآن الهند في الطريق الى القمر. الطبقة المتوسطة فيها في عدد سكان العالم العربي. الصناعة التكنولوجية فيها في مستوى كاليفورنيا. حجمها السياسي يفرض على العالم تغيير نظام هيئة الأمم، ونحن تحت رحمة الوسطاء في كل القضايا. كانت النكتة الشائعة في مصر ان الساذج «هندي» لكن الدخل القومي في الهند لا يقبل المقارنة بأي دخول قومية في العالم الثالث. عدد الاثرياء في هند اليوم أضعاف عدد المهراجات في هند التخلف.

لماذا؟ الى جانب اليوغا والتبرك بروث البقر، اختارت الهند أن تنهض عن سرير المسامير لكي تعمل. واختارت كرامتها، ولذلك فهي لا تقبل أي مساعدة خارجية. وفي العمل اختارت العلوم. فلا تزال البقرة رمز الحراثة لكن الجرار الواحد ينتج أكثر من ألف بقرة في النهار. واختارت الطب لكي ترد الأوبئة التي تنمو مع الفقر. واختارت النظام الديمقراطي لكي تتسع لمليار انسان يتكلمون ست لغات رسمية. ولم نعد نرى رسما كاريكاتوريا واحدا عن فقراء المسامير الذين مروا في الحياة بلداء كسالى أرخياء مغلقي العقول، وعاشوا العمر من مسمار الى مسمار. بلا احساس.