(بارات) الصحة ثالثاً: الأوكسجين

TT

جربنا (الماء)، ثم (الحليب)، ولم يبق غير (ثالثة الأثافي)، ألا وهو (الأوكجسين).

وقد بدأت موضة استنشاقه في التسعينات من القرن الماضي، حيث انطلقت أولا من اليابان ثم انتقلت هذه الصرعة إلى (كاليفورنيا) في أمريكا، ثم أكملت مشوارها إلى أوروبا. وكثرت (بارات الأوكسجين) تحت مسمّى الاستنشاق الترفيهي، والدقيقة سعرها دولار واحد، ومتوسط الوقت الذي يقضيه المستنشق هو عشر دقائق يومياً ـ وعليكم الحساب ـ، بل إن بعض الزبائن يستنشق صباحاً وظهراً ومساءً.

وثمة عدة طرق لإيصال الأوكسجين إلى الحويصلات الرئوية، إما عبر أنبوبين مثنيين يدخلان في فتحتي المنخار رأساً، أو عبر كمامات تثبت على الفم والأنف، أو إدخال الشخص إلى (كبينة) ـ هي عبارة عن حجرة مغلقة مزودة بضغط عال من الأوكسجين، وهناك طريقة رابعة نصحني بها أحدهم (الله لا يمسيه ولا يذكره بالخير)، ذلك الشخص الذي لا أستبعد أن نيته كانت سيئة جداً نحوي بإسدائه لي تلك النصيحة، والمشكلة أنني صدقته بكل عبَط، وبعد قليل أشرح لكم الطريقة (الزفتاوية) التي تورطت فيها.

والحكاية وما فيها أنني قبل ثلاثة أعوام كنت في (ماربيا) بجنوب إسبانيا، وأتاني ذلك الشخص يطلب مني مرافقته لتزجية الوقت في أحد المرابع، وقد اعتذرت لأنني طفشان وفوق ذلك (منهد حيلي). حاول معي بشتى الطرق، لكنني (حرنت) ورفضت، واستسلم وذهب، وفي ثاني يوم اتصل بي يسأل عن حالي، فقلت له إنني ازددت (انحطاطاً)، فقدم لي نصيحته التالية قائلا: إن هناك دكتورا ألمانيا له عيادة في أحد الفنادق الكبرى، وطريقته مبتكرة، حيث أنه يشحن دمك بالأوكسجين فتعود للوراء عشرين سنة وتتفجر طاقاتك. طبعاً (ارتخت أذني)، وتغيرت نبرة صوتي وطلبت منه العنوان والتليفونات، واتصلت وأخذت موعداً، وذهبت إلى العيادة في صباح اليوم التالي. وتفاجأت أولا بمنظر الدكتور، فهو يصلح أن يكون مصارعاً أو جزاراً، لكن أن يكون طبيباً، فهذه هي المعجزة، وكانت تساعده ممرضة (ماابهاش) ـ مثلما يقول إخواننا السوريون ـ، يعني (مملوحة)، غير أن جلدها يا سبحان الله ممتلئ (بالنمش) من وجهها إلى ذرعانها إلى سيقانها، وتباسطت معها قائلا: كان المفروض أن يسميك أهلك: (نمشة)، فلم تفهم المسكينة، لكنها أخذت تردد طوال الوقت وهي ذاهبة وقادمة: نمسة، نمسة، نمسة، وبين كل كلمة وكلمة تنظر لي مبتسمة.

المهم لا أطيل عليكم، فقد فرض عليّ الجزار ـ أقصد الطبيب ـ فرض عليّ أن أخلع ملابسي كلها ولا يبقى على جسدي إلا ما يستر العورة، ثم أجلسني على كرسي من الجلد وربط ساعديّ وقدميّ، وحتى رقبتي ورأسي ثبتهما بحيث لا أستطيع أن أتحرك، وقد تذكرت كرسي الإعدام الكهربائي، وبعدها أتى بحقنة كبيرة وشكها في وريدي وأخذ يسحب من دمي ويعبّيه في زجاجات كبيرة، وكلما امتلأت زجاجة أحضرت (نمشة) أخرى، وبدأت قواي تخور، وعيوني تزغلل، وأحسست في النهاية أنني (رجل ما عندي دم)، مثلما يقولون بحق وحقيق. حاولت أن أتكلم لكي يعيد دمي ويطلق سراحي، لكنني فعلا لم أستطع أن أعبّر بغير النظرات المتوسلة، وأصبحت حياتي معلقة بين يديه. أخذ ينظر في وجهي بابتسامة من خلف شاربيه الكثيفين وكأنه يقول: هاه تتحدى. وران علينا صمت مطبق وأنا بين الحياة والموت، غير أنه أخيراً بدأ يضخ الأوكسجين بدمي الممتلئة به الزجاجات التي أراها أمامي، وأخذ لون دمي يتحول من (بوردو) عنّابي إلى (بِنك) يشبه (شربات) الأعراس المصرية، وبعدها أخذ يحقن الدم ويعيده ثانية إلى عروقي، وهذه العملية كلها استغرقت ما يقارب الساعة.

وخرجت من عنده مهرولا، وألعن الساعة التي أتيته فيها.. وشعرت بعدها أنني أصبحت خفيفاً، لا جسدياً فقط، لكن عقلياً كذلك، وقد لمس ذلك كل مَن تعامل معي لاحقاً.

ولا تزال (الخفة) تلازمني إلى هذا الوقت، ويا ويل من يقول لي: أُف.

[email protected]