المد الروسي.. والجزْر الأميركي

TT

في الوقت الذي يتواصل فيه الجزْر الاميركي ويتوسل الرئيس جورج بوش الابن الكونغرس من جهة والدول المقتدرة من جهة أخرى ويستنجد في خطوة غير مسبوقة بقطبيْ السباق الرئاسي الى حلول أحدهما في البيت الأبيض أوباما الأسود أو ماكين الأبيض فيدعوهما الى «قمة وطنية» طارئة من نوع القمم العربية الاستثنائية في البيت الأبيض للمشاركة في استنباط خطة انقاذ للاقتصاد الاميركي المقبل في رأيه على «ركود طويل ومؤلم» ثم لا يحصل في نهاية الأمر إلا على الحل بالتقسيط... في هذا الوقت كان المد الروسي يتواصل هو الآخر ويؤسس لحالة جديدة غير مسبوقة، وهي ان روسيا تشق طريقها في اتجاه الثروة النفطية في اميركا اللاتينية وتستعمل ورقة ارثوذكسيتها في مخطط الحضور خارج الحدود لها حيث ستبني الكنيسة الروسية في منطقة صيدنايا قرب دمشق أكبر تمثال للسيد المسيح من عمل نحات روسي يريده بوتين أهم من تمثال الحرية في نيويورك، كما تنجح في مرمغة أُنوف دول تحلق في المدار الاميركي، وتستعجل فرض عقوبات على ايران، فلا تتمكن هذه الدول من عقد اجتماع حاسم وبعدما أمكن الاجتماع لم تتمكن من اتخاذ العقوبات التي تريدها أميركا، ويقول وزير الخارجية الروسية وبعدما كان التهويل الكوندوليزي لم يؤثر عليه خلال اجتماعه بزميلته الاميركية يوم الخميس 2008.9.25 في نيويورك، وهو الأول بينهما بعد أزمة جورجيا، ما معناه أنه لا ضرورة لاتخاذ العقوبات، وكأنما هو في ذلك يوحي بتجيير الأزمة مع ايران النجادية الى الادارة التي ستتسلم في العام 2009 المتبقي على قدومها ثلاثة أشهر.

بلغ المد الروسي مرحلة متقدمة يوم الجمعة 2008.9.26 عندما تم الاتفاق في موسكو بين الرئيس الفنزويلي المشاكس هوغو تشافيز، الذي وصل اليها من بكين حيث رفع مع حكومتها نسبة التعاون في معظم المجالات من بينها تزويد القوات الجوية الفنزويلية بـ 24 طائرة تدريب، والثنائي الممسك بزمام امور الكرملين رئيس الدولة ديمتري ميدفيديف ورئيس الحكومة الأقوى شأناً فلاديمير بوتين على الاستثمار في قطاعيْ النفط والغاز في فنزويلا بمليارات الدولارات. والأهم من ذلك هو أن تشافيز الذي دغدغ المشاعر الروسية نافخاً في صدور حكام الكرملين المزيد من العظَمَة مؤكداً دعم موقف روسيا من نزاعها مع جورجيا، تماماً على نحو ما سبق أن فعل ذلك الرئيس بشَّار الأسد، يتطلع متأثراً بالنهج النجادي ومسكوناً بفكرة توازن القوى مع الولايات المتحدة، الى امتلاك فنزويلا السلاح النووي، وبذلك تكون الدولة الأولى في أميركا الجنوبية التي تملك هذا السلاح وتصبح بذلك قادرة على تحدي الولايات المتحدة.. وهو تحد أين منه تحدي كوبا الستينات، لأن الاتحاد السوفياتي كان في صدد تمليك كاسترو صواريخ كفيلة بتهديد الساحل الاميركي وما بعد الساحل من اعماق تصل الى نيويورك وواشنطن. ولقد كان الموضوع النووي مدار بحث بين تشافيز وبوتين ومِنْ قبل البحث في مكاسب الاستثمارات النفطية بمليارات الدولارات، الامر الذي يعني ان الرئيس تشافيز استعمل ورقة النفط لإغراء الرئيس بوتين الحالم بـ«عالم متعدد الاقطاب» وأن هذا الاخير كان خلال لقائهما منفرديْن يوم الخميس 2008.9.25 متجاوباً رغم إدراكه مخاطر أن تصبح شركات روسية ـ فنزويلية متحكمة بالنفط الذي تستورده الولايات المتحدة من فنزويلا. وكان الرئيس تشافيز اقتحم ميدان المخاطر عندما وقف يوم الجمعة 2008.9.12 خطيباً في مهرجان شعبي حافل في العاصمة كراكاس تضامناً مع حليفه اليساري رئيس بوليفيا إيفو موراليس الذي يعيش أزمة دموية في بعض جوانبها مع معارضيه الذين تؤازرهم الولايات المتحدة. وفي خطابه اعطى سفير أميركا مهلة 72 ساعة لمغادرة البلاد وعلى نحو ما فعل قبل ذلك بيومين حليفه البوليفي، موضحاً أن قراره سببه ان الإدارة البوشية ضالعة في مؤامرات لإسقاط الحكومات اليسارية في أميركا الجنوبية عن طريق ضباط متقاعدين. وقال في الخطاب أيضاً وهو يشير الى ساعة يده: «فلتذهبوا الى الجحيم أيها اليانكيز. نحن شعب له كرامته. فلتذهبوا الى الجحيم مائة مرة. وإذا وقع اعتداء على فنزويلا لن يكون هناك نفط لشعب وحكومة الولايات المتحدة».

شئنا أم لم نشأ، هنالك «عالم آخر بثلاثة أقطاب» قيد النشوء بعد أن تهدأ بعض الشيء عملية المد والجزْر... هذا إذا كُتِب للظاهرة النجادية ـ التشافيزية أن تستمر، وقررت روسيا البوتينية في الوقت نفسه ممارسة اللعبة الى النهاية مستغلة أن أميركا البوشية دخلت مرحلة الإنهاك وأن الرئيس بوش الابن سينصرف تاركاً دولة خسرت الرهان الى حد ما في العراق وانتهى العلاج لأخطر أزمة اقتصادية تعيشها الى انها ستعتمد أسلوب التقسيط.. وهذا يتم على وقع معزوفة الشماتة بها من بعض دول العالم الثالث ومعها «دولة حماس» و«دولة حزب الله» و«دولة القاعدة» وزميلتها «دولة القراصنة». كما يتم قبل أسابيع قليلة من مناورات بحرية روسية ـ فنزويلية غير مسبوقة أمام سواحل فنزويلا في منقطة تُعتبر حديقة خلفية للولايات المتحدة.

لكن يمكن القول أيضاً ان ضربة نوعية ومن دون تهوُّر من جانب أميركا وحلفاء لها للتطلعات النجادية النووية من شأنها قلْب الطاولة على تجمُّع الشامتين. وليس بالضرورة أن تكون الضربة عسكرية وذلك لأن تنفيذ «الوعد البوشي» وقيام دولة فلسطينية بمواصفات «المبادرة العربية» ونصائح الملك عبد الله بن عبد العزيز يشكِّل أفضل بديل للمواجهة الحربية. وبهذا البديل تستقيم الأمور وتنقلب الآية بحيث أن المد يصبح أميركياً والجزْر روسياً.. ويكون العالم على درجة من الطمأنينة.