حفلات الوداع الأميركية عبر غارات الهليكوبتر

TT

باق من الزمن، خمسة وسبعون يوما، وينتهي بعدها حكم الرئيس جورج بوش، وينتهي معه حكم المحافظين الأميركيين الجدد، الذين يمكن تقديم أغلبهم بسرعة وببساطة إلى محكمة الجنايات الدولية لمحاكمتهم بتهمة الإساءة للبشرية، لولا أنه لا يمكن محاكمة المسؤولين الأميركيين على أي مستوى كانوا، سواء كانوا في لجان البيت الأبيض، أو داخل غرفة الحراسة عند باب إحدى ثكنات الجيش. والسبب هو وعي القادة الأميركيين المبكر والدائم، إلى أنهم سيرتكبون من دون شك، سلسلة طويلة من المخالفات، فوضعوا أمامها سلسلة طويلة من حواجز الحماية التي يستحيل معها تقديم أي أميركي إلى أية محكمة مهما كانت التهمة الموجهة إليه.

وهكذا فإن الولايات المتحدة الأميركية لا توقع على أية معاهدة دولية تنص على محاكمة أي مسؤول أو أي حزب أو أية جمعية أو أية حكومة إذا ارتكبت أنواعا محددة من الجرائم. إنها هي التي تضع نص المعاهدة، وهي أيضا التي تتولى عرضها على الأمم المتحدة، وهي أيضا التي تحشد الأصوات لكي يتم إقرارها، وهي أيضا التي تضغط على الدول كي تقوم بالتوقيع على المعاهدة لكي تصبح بعد ذلك معاهدة معتمدة عالميا. إلا أن الولايات المتحدة الأميركية نفسها ترفض التوقيع على المعاهدة، وهي تعلن ذلك دون خجل أو وجل حتى أنها ترفض التوقيع على ما يجب أن يوقع عليه الجميع.

أما إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية الطرف المقابل الوحيد في معاهدة ما، مثل معاهدة بين دولتين، فإنها تكون حريصة على أن تتضمن المعاهدة، نصا يدعو إلى محاكمة أي طرف مقابل، فردا كان أو مؤسسة، ثم يلي ذلك نص آخر يقول بأن الأميركيين، قادة أو ضباطا أو جنودا أو مدنيين يعملون معهم، معفيون من مسؤولية الاتهام أو الملاحقة أو المحاكمة. وعلى الطرف الآخر المشارك في المعاهدة أن يقبل ذلك وأن يوقع عليه، حتى لو كان يعرف سلفا أن المسألة هنا تمسه وتمس مواطنيه وقادته. وهذا ما يحدث حاليا في ما يسمى المعاهدة الأمنية العراقية التي يرغب الأميركيون بالوصول إليها بعد انتهاء مدة وجود جيشهم في العراق، استنادا إلى القرار الذي انتزعوه من الأمم المتحدة، والذي ينتهي مع نهاية هذا العام، وينتهي بالتحديد مع نهاية حكم الرئيس بوش، ونهاية حكم المحافظين الجدد.

في هذه المعاهدة الأمنية… الجيش الأميركي في العراق لا يحاكم. القائد الأميركي في العراق لا يحاكم. الجندي الأميركي في العراق لا يحاكم، حتى لو قتل أو اغتصب أو سرق. وفي حالات من هذا النوع، فإن الجيش الأميركي الذي هو فوق الجميع، قد يرى أن أميركيا ما أخطأ، فيبادر هو إلى اعتقاله ومحاكمته. وقد حدث خلال السنوات الخمس الماضية أن اعتقل وحوكم خمسة أو ستة جنود أميركيين، اتهموا بالاغتصاب أو بالقتل العمد لمدنيين في الشوارع أو داخل بيوتهم. وهذه الأحكام فضيلة تسجل للأميركيين، حيث تمت محاكمة خمسة أو ستة أميركيين قتلوا خمسة أو ستة عراقيين، ولكن الإحصاءات تقول إن القتلى المدنيين العراقيين قد تجاوزوا المليون، وأن الجرحى قد تجاوزوا المليونين، وأن المهجرين قد تجاوزوا الأربعة ملايين، فهل ستستطيع فضيلة محاكمة الجنود الخمسة أو الستة، أن تغطي على مأساة هؤلاء الملايين من القتلى والجرحى والمهجرين؟ إن المعاهدات في العادة، لا تطرح هذا السؤال أبدا، ولا تجيب على هذا السؤال أبدا، لا باللغة العربية ولا حتى باللغة الإنجليزية.

وبما أن الإدارة الأميركية أصبحت في نهاية عهدها، فإنها معنية بتنظيم سجلها الذي يتضمن أداءها في سنوات الحكم. والإدارة الأميركية الراهنة معنية أكثر من سواها بتنظيم الـ (C.V) الخاص بها. و (C.V) الدول يختلف أحيانا عن (C.V) الأفراد، فإذا كان هناك أمر قد تم إنجازه فيمكن إدراجه في السجل فورا. أما إذا كانت هناك أمور لم تنجز بعد، فلا بد من الإسراع في إنجازها، ولو في أيام الإدارة الأخيرة، من أجل إدراجها في الـ (C.V) النهائي المنتظر. وفي هذا السياق تعمل الإدارة الأميركية على خط جغرافي واسع، يبدأ من سوريا ويمتد إلى أفغانستان والسودان وإسرائيل وفلسطين وإيران.

نبدأ من فلسطين. إذ بالرغم من أن الإدارة الأميركية هي الآن في مرحلة انتقالية، وأصبحت معفاة من المحاسبة على جهودها في إنجاز ما على صعيد الصراع العربي ـ الإسرائيلي، إلا أن وزيرة الخارجية كونداليزا رايس، أعلنت أنها ستزور إسرائيل، وستزور السلطة الفلسطينية، حتى بعد إجراء الانتخابات، وتحديد إسم الرئيس الأميركي الجديد. أي أنها ستزور من دون تكليف بمهمة. وستزور من دون أن تتوقع إنجازا ما. فلماذا الزيارة إذا؟ إنها من أجل محاولة أخيرة تبذلها. محاولة تشبه المطاردة، لإقناع المتفاوضين بأن يلخصوا لها ما ناقشوه، حتى إذا ما وافق الطرفان أمكن ضم التلخيص كإنجاز في (C.V) الرئيس بوش وعهده الطويل.

وفي السودان أيضا، تدور الحرب علنا من أجل دارفور. ولكن الحرب تدور سرا من أجل النفط. الأميركيون هم الذين نقبوا عن النفط واكتشفوه في السبعينات من خلال شركة «شيفرون»، وهم أيضا الذين تخاصموا مع السودان، وأرادوا معاقبته، فأوقفوا التنفيذ وانسحبوا، ثم جاء الصينيون ليكون البديل، وحين بدا أن الصينيين أصبحوا قادرين على ذلك، بدأت حرب دارفور، وفي أهدافها الخفية طرد الصينيين من عالم النفط هناك، ومن أجل أن يعود الأميركيون لاحتلاله. وبما أن أحدا لا يعترف بذلك علنا، فإن الحديث يجري عن المذابح وعن الإبادة الجماعية وعن محاكمة الرئيس السوداني. وحين لم تجد كل هذه الوسائل تم الايعاز لمن يلزم، فجرى اختطاف صينيين يعملون في السودان (يعملون في النفط طبعا)، وجرى قتل بعضهم، كرسالة للصينيين وللسودانيين تقول: هذا ما يجب أن تفهموه، اخرجوا أيها الصينيون من السودان.

ثم جاء الحادث الأخير، حادث المزرعة في مدينة البوكمال السورية، حيث جاءت طائرات الهيلكوبتر الأميركية، ونزل منها الجنود، وقتلوا أفراد عائلة بأكملها. لماذا؟ لأن رب العائلة هو أخطر مهرب لمقاتلي القاعدة إلى أرض العراق. لنفرض أن القصة الأميركية صحيحة بأكملها، أليست هناك وسائل لتحقيق الهدف أكثر لطافة مما حدث فعلا؟ كان الجيش الأميركي في العراق، يستطيع مباشرة أو من خلال الحكومة العراقية، إجراء اتصال رسمي مع الحكومة السورية، يقول فيه ما لديه من معلومات عن موقع للقاعدة يستعمل لتهريب المقاتلين، مع طلب محدد باعتقال شخص بالإسم مع مساعديه. وهنا تستطيع سوريا من دون طائرات، ومن دون إنزال جنود، أن تذهب إلى الموقع المحدد، وأن تعتقل كل من يقيم فيه، وأن تتأكد إذا كان مركزا لتهريب المقاتلين أم لا. أما الانطلاق فورا من بلد عربي لمهاجمة بلد عربي آخر, وأما الاستعداد الدائم لانتهاك سيادة دولة, وأما التبرير السهل لقتل المدنيين رجالا ونساء، وتبرير ذلك كله بأنه عمل تكتيكي ميداني، لا يستدعي اتصالا ولا تبليغا ولا تنسيقا، فهو الاستهتار بعينه، الاستهتار الذي ينبع من معرفة كل ضابط، ومن معرفة كل جندي، بأنه لن يساءل ولن يحاكم مهما فعل. وهكذا يلتقي حادث البوكمال، مع الاتفاقية الأمنية التي تريدها أميركا في العراق، والتي قتل عبرها أفراد العائلة السورية، ومن دون أن يسمعوا حتى باسم تلك المعاهدة الأمنية.

وقد يظن البعض أن في هذا الكلام شيئا من المبالغة، ولكن نظرة على ما يجري عند حدود باكستان، من انتهاكات أميركية يومية لسيادة دولة حليفة أميركا، ومن قتل يومي لعشرات المدنيين الباكستانيين في غارات جوية وحشية، تؤكد أن العدوان الأميركي على سوريا، هو سياسة أميركية رسمية عادية، تنفذ حتى ضد الأصدقاء والحلفاء. وهو سبب إضافي لمجموعة الأسباب التي يمكن اعتمادها لرفض المعاهدة الأمنية الأميركية.