حكايات القراصنة

TT

البحار تقذف دوما بالغريب البعيد، ومن ضفافها تنطلق الأساطير، البحر هو سيد الغموض وملاذ التوقعات الخارجة عن المألوف، ومن هذا الغموض ولدت حكاية القراصنة الصوماليين الجدد على شواطئها.

أصبح قراصنة المياه الصومالية الطويلة المفتوحة على المحيط والبحر الأحمر ظاهرة مزعجة بعدما أصبحت هواية القرصنة عادة يومية لا تكلف صاحبها سوى امتلاك طراد صغير وبضعة رشاشات ورجال، ثم يصبح من أصحاب المال والثروة حسب تقرير صحيفة «نيويورك تايمز» قبل بضعة أيام، والذي تحدث تحديدا عن مدينة «بوصاسو» عاصمة القرصنة. وقال الصحافي محمد إبراهيم الذي تجول في المدينة العجيبة :«يستخدم القراصنة في عملياتهم زوارق صغيرة يضعونها إلى جانب فرائسهم من السفن، ثم يتسلقون إلى ظهر السفينة باستخدام السلالم أو الخطاطيف الصدئة في بعض الأحيان. وما أن يصعدوا إلى ظهر السفينة حتى يحتجزوا الطاقم تحت قوة السلاح إلى أن يتم دفعة الفدية التي غالبا ما تتراوح بين مليون ومليوني دولار». وينقل عن عبد الله عمر قاودن، الكابتن السابق في البحرية التي لا وجود لها الآن: «كل ما تحتاجه ثلاثة رجال وقارب صغير لكي تصير في اليوم التالي مليونيرا».

فرنسا أعلنت عن قلقها ومعها أوروبا كلها، ومجلس الأمن أصدر قرارا برقم 1838 في 7 أكتوبر (تشرين الأول) بشأن التعاون الإقليمي والدولي لمكافحة عملية القرصنة البحرية هناك. والجامعة العربية دعت الدول العربية المطلة على البحر الأحمر لمناقشة هذا الأمر الجلل، ووزير خارجية مصر أبدى تخوفه من أن يكون القرار الدولي منفذا للتحكم بأمن البحر الأحمر وسحب ذلك من أهل الشأن العرب، خصوصا مع وجود تعاون ظاهر وخفي بين دولة مثل إريتريا وإسرائيل، وإسرائيل نفسها وإن كانت لا تملك إلا بضعة أميال على البحر الأحمر إلا انها تعتبر نفسها معنية بما يجري في أقصى مياه الأحمر.

معضلة الصومال ليست خاصة به، وهذا البلد المنكوب المتروك لمصيره المحزن لن يقتصر ضرره على أهله بل سينسحب إلى جواره، وجواره ليس إثيوبيا او السودان فقط، بل اليمن والسعودية ومصر، تلك الدول التي تشاطر الصومال بحره، ودينه ومعتقده، وجامعته العربية، فليت أن الدول العربية وغير العربية المهتمة بقضية الصومال تسعى لحل شامل وجذري للأزمة، لا أن يتم تركيز النقاش والجهد على مكافحة قراصنة «بوصاسو» فقط.

يبقى السؤال هل هم قراصنة همُّهم جني المال واستثمار جو الفوضى وغياب السلطة وتفسخ الصومال ؟ أم هم أصحاب قضية يريدون حماية مياه الصومال والقيام محل الدولة الغائبة في تحصيل الرسوم المستحقة، ولو بطريقة همجية، من المبحرين في مياه الصومال بلا إذن وتنسيق كما قال احد ناطقيهم (نعم لهم ناطق رسمي!)؟ أم هم «مجاهدون» هدفهم تشتيت القوات الاثيوبية التي طردت ميلشيا المحاكم من مقديشو وأجزاء واسعة من البر الصومالي فأراد هؤلاء القراصنة نقل المعركة إلى البحر من خلال استهداف الأعداء «الصليبيين» حلفاء إثيوبيا التي دخلت الصومال بتفويض أمريكي؟

زعيم حركة المحاكم الاسلامية السابق، شيخ شريف، أبدى في حوار سابق معه في جريدة «الحياة» (يوم 4 أكتوبر الماضي) «استغرابه الشديد» من عمليات القرصنة التي تجري في البحر الأحمر، خصوصاً أمام السواحل الصومالية. وقال: «في فترة المحاكم الإسلامية كانت هناك عمليات قرصنة محدودة تمت السيطرة عليها.. «ولكن ما يجري في مياه الصومال الآن يستعصي علينا فهمه».

هنا أمر آخر ينبغي ان نتوقف عنده، بعيدا عن المشكلة الصومالية بشكل خاص، وهو طبيعة الصورة التي نكونها عن عمل بحري عسكري هنا او هناك، أعني النزاع على التوصيف الايجابي او السلبي وإصدار أحكام قيمية، هي بالضرورة خاضعة لموقع وثقافة ومصلحة الطرف الذي يصدر الحكم، وبالذات في عالم البحار بين المسلمين وغيرهم. فقد كانت هناك قصص كثيرة تروى، فمثلا كان البحار الشهير «رحمة بن جابر» الذي صال وجال بأسطوله بمياه الخليج العربي في الفترة من 1800م الى 1826م، تارة ضد الانجليز وتارة ضد الفرس وتارة ضد أطراف أخرى، كان في نظر الانجليز والفرس والامارات البحرية مجرد قرصان يسلب وينهب، وكان في نظر آخرين «مجاهدا» بحريا يحمي الخليج، ورجلا تقيا يقاتل في سبيل الله، بينما هو في نظر آخرين رجل شجاع يوزاي ابطال الصحراء في كرمه وشجاعته، لكن على مياه البحر لا كثبان الرمال، وما زال الخلاف حول صورته التي يجب أن تستقر في الاذهان قائما. بينما نجد قائدا بحريا شهيرا أقدم من صاحبنا هذا، وفي بحر آخر هو البحر الأبيض المتوسط، دار حوله أيضا ذات الجدل، ولكن هذا المرة بين مؤرخين مسلمين رأوا فيه مجاهدا بحريا ضد البرتغاليين والإسبان، وأن خير الدين وأخوه عروج هما حماة للمدن الإسلامية، بينما رأى فيهم سكان الضفة الأخرى من المتوسط، خصوصا القائد بربروس، قرصانا متوحشا غرضه السلب وبث الرعب. خير الدين بربروس «ذو اللحية الحمراء» (توفي 1543م) كان قائد الأساطيل العمثانية، واتخذ من الجزائر محطة انطلاق له في معاركه، واصبح اسم بربروس مثيرا للرعب في المدن والجزر الأوروبية المطلة على المتوسط، ودعونا نتذكر أننا كنا في تلك الفترة نعيش ذروة الصراع بين الممالك الأوروبية «الصليبية» ضد المسلمين بعيد سقوط الأندلس، وتحول اسم «بربروسا» ـ حسبما صار ينطق ـ الى أيقونة رعب في الذاكرة الشعبية القديمة، ولعلنا نتذكر شخصية القرصان بربروسا في الفيلم الشهير «قراصنة الكاريبي» فهي تحيل ـ فيما تحيل ـ إلى هذه الذاكرة النازفة من رحم القرون السالفة.

إذن فإن الخلاف حول توصيف هذه الأعمال يبقى خلافا مفتوحا، ما لم تحل القضايا التي أدت إلى بزوغ مثل هذه الظواهر الفالتة من عقال الدولة، فهذه الظواهر تستمد أسباب بقائها إما من اللعب على وتر مظالم لم يتم الانتصاف للمظلومين فيها، أو على وتر استرداد الحقوق السليبة، او تلعب، ببساطة شديدة، على عجز الدولة عن توفير الحماية والعدالة، والعالم لا يقبل الفراغ، فتحل هذه المجموعات محل الدولة، ولو بشكل مفرق ومبعثر، فهذا للبحر وذاك للبر، وهذا للدنيا وذاك للدين، على أشلاء دولة ممزقة شر ممزق.

هذا الكلام لا يعني تسويغ، أو حتى تفهم، ما يقوم به قراصنة الصومال، فهم في نهاية الأمر، أيا كان الشكل الذي يرون أنفسهم فيه، عصابات تقوم بأعمال مجرمة ومسيئة، ولكن يجب معالجة البيئة التي أتاحت لـ«جن البحار» هؤلاء أن ينطلقوا من قماقمهم، وأيضا أن لا نرى الأمور دوما من زاوية واحدة، بل نحاول تقليب الصورة على أكثر من وجه حتى نقارب الحقيقة، وإن كان محالا الوصول إليها.

قراصنة الصومال رشوا على الذاكرة قليلا من مياه البحار الحافلة بحروب الزمان، وذروا حفنة من ملوحة البحر على جراح التاريخ والهوية الذاكرة بانتظار «الطبيب المداويا».

[email protected]