فوز أوباما.. سقوط نظرية المؤامرة

TT

أن تتجه امرأة عجوز عمرها 106 أعوام لأول مرة في حياتها إلى مركز للتصويت كي تنتخب ذلك «الولد»، أن يحقق الناخبون الأمريكيون لا سيما الشباب منهم أعلى معدل للمشاركة الانتخابية منذ عام 1908 من أجل التصويت لاوباما، أن يقف العالم بأسره أسير تلك اللحظة التي صوتت فيها الأمة الأمريكية لرئيس يحمل لون بشرة مغاير لغالبية أبنائها، ويحمل اسما لا تألفه ثقافة هذه الأمة، أن ينجح ابن المهاجر الكيني المسلم القادم من ذيل الهرم الطبقي الاجتماعي في الهام أبناء بلده وقيادة أكبر حركة للتغيير في المجتمع الأمريكي منذ اغتيال مارتن لوثر كنغ، أن يحدث كل ذلك وسط غيوم التشاؤم ومن بين ركام المخاوف العميقة التي أذكتها صراعات وحروب قائمة على الخوف من الآخر، وأزمة اقتصادية بدأت تلف العالم بأسره، وعولمة أطلقت الكثير من المخاوف والهواجس وجعلت الإنسان حبيس قوالب جامدة في التفكير والنظر للعالم من حوله، فان ما يعنيه فوز «الولد» يحمل رمزية عالية تعكس قدرة بعض المجتمعات على أن تستعيد حيويتها وان تصنع التاريخ، فيما تستسلم مجتمعات أخرى لخذلانها المستمر هاربة من التاريخ إلى صوامع فكرية تقدس عجز الإنسان وتحول كل الممكنات إلى مستحيلات تحكمها إرادة القدر، وعندما لا تجد في القدر تفسيرا كافيا تلجأ إلى نظرية المؤامرة لأنها ابسط طريقة للقول بأن لا مجال لعمل شيء.

من يتذكر منا آخر مرة شهد فيها مجتمعه يمسك زمام المبادرة ويعمل لأن يغير واقعه عبر حركة اجتماعية حقيقية كتلك التي قادها اوباما وهو يصرخ بين مستمعيه: نعم نستطيع. السؤال يظل مؤلما دائما لكنه مشروع: لماذا هم يستطيعون ونحن لا؟

إن نظرية المؤامرة هي من بين أهم ضحايا انتصار اوباما، فبغض النظر عما ستؤول إليه الأمور عندما تنتهي نشوة الانتصار وتبدأ ساعات العمل الحقيقي والحسابات الميدانية، فان غالبيتنا لم يكن مقتنعا بإمكانية أن يفعلها، حتى لو كان يستطيع فلن يسمحوا له، هكذا كان الكثير منا يتحدث ويفكر، كان من الصعب علينا أن نراهن على قدرة المجتمع على أن ينتج التغيير لأنه شيء لم نألفه، تصورنا أنهم سيغتالونه أو يرتبون له فضيحة ما، تصورنا كل شيء إلا انه سينجح لان نجاحه يعاكس ما جرى عليه تفكيرنا في أن كل شيء يحدث هناك، في العالم الذي لا نفهمه، هو مؤامرة. أسقطنا واقع مجتمعاتناعلى فهمنا لما يحصل هناك فعطلنا قدرتنا على الفهم لنبقى مجرد مستقبلين سلبيين ننتظر التغيير هناك عله ينتج صدى هنا، وان لم ينتج شيئا، فنحن كما كنا دائما لمنتظرون!

لم يقتلوه، ببساطة لان لا وجود لهم، ليست هناك قوى خفية تدير العالم، هناك عالم يدير نفسه وتشكله صراعات النفوذ وتوازنات القوى، عالم ينتج المنتصرين والمهزومين، الأقوياء والضعفاء، الحاكمين والمحكومين، لكنه عالم ثابته الوحيد هو التغيير، المستفيدون من الوضع القائم لا بد أن يقاوموا التغيير ولا بد أن تكون مقاومتهم هائلة ومرئية لأنهم يمتلكون الموارد ومصادر القوة، لكن المجتمعات عندما تعتنق التغيير وتؤمن بإمكانية تحقيقه وتصطف وراء قيادة قادرة على الإلهام، يمكنها أن تغير الموازين إلى الحد الذي يصبح معه ابن المهاجر الفقير رئيسا للدولة الأعظم.

هل سنتوقف عن تسبيب كل شيء بإرادة القدر أو بنظرية المؤامرة، أشك في ذلك، لأننا بدونهما نغدو أمام خيار وحيد لا نريده: انه خيار أن نسعى لإنتاج التغيير طالما أننا نلعن واقعنا في كل يوم وفي كل ساعة. المشكلة أن مجتمعاتنا حتى عندما تريد أن تغير فإنها تختار النكوص، وحتى عندما تريد أن تنفذ التغيير فإنها تختار الانتحار. بعضنا يعول على اوباما كي يحفظ رأسه من السقوط، وبعضنا عول على ماكين كي يطيح له برأس خصمه، بعضنا أراد اوباما لأنها الطريقة التي من خلالها يظن انه انتصر على بوش، وبعضنا أراد ماكين كي يتأكد أن الأمريكيين غير راحلين، كل ما أردناه على اختلافه هو أن يقوم الآخر بالفعل نيابة عنا، أن ننتصر عبر الآخر لا عبر أنفسنا، لان قدرتنا على الفعل قد تعطلت أمام انتصار قدرتنا على الانتظار.

لقد كان حجم التثقيف المعاكس للناخب الأمريكي هائلا وكبيرا، تم استخدام كل ذرائع التخويف لإقناعهم بان اوباما هو خيار المخاطرة، لكنهم اختاروا المخاطرة على أن يخضعوا لمخاوفهم، أدركوا أن المخاطرة الأكبر هي في أن يستسلموا لتلك المخاوف ويغدو البقاء عند النقطة التي هم فيها هو الغاية، المجتمعات الحية تقبل المجازفة لأنها لا تخشى المستقبل وتمتلك ما يكفي من الآليات للتكيف مع تحدياته، وحدها المجتمعات الخائفة هي التي لا ترى في الغد غير يوم أحلك سوادا، وتخشى المجازفة حتى عندما لا تمتلك شيئا تخشى عليه. أما الذين يتذرعون بأن أمريكا اكبر من أن تتغير، وان كل شيء سيبقى على حاله، وان «المؤسسات» هي التي تقرر، لا يدركون أن في تاريخ الأمم لحظات يمكن أن يصبح فيها التغيير ممكنا جدا عندما تثق الأمة بمن يتولى مسؤولية هذا التغيير. قد ينجح اوباما أو يفشل فكله رهن بقدرته على توظيف التكليف الكبير الذي أعطاه إياه الناخبون، وهو قال «إن انتصاره ليس التغيير، بل فرصة لتحقيق هذا التغيير»، لكن ما لم يستطع قوله ولكننا رأيناه وأحسسناه، أن التغيير قد حدث في تلك الحركة الاجتماعية التاريخية التي قام بها الناخبون الأمريكيون يوم 4 نوفمبر 2008، عندما تغلبوا على مخاوفهم الموروثة والمكتسبة وقبلوا المجازفة من أجل غد أفضل...