أبي رقراق

TT

نحن، عرب المتوسط وجبال الثلوج، لا يمكن أن نقدر قيمة المياه مثل عرب الجزيرة. أو بعض عرب المغرب، ومن أجمل ما قرأت ذات يوم قول لصحراوي من النيجر: «تعلمك الصحراء أمراً واحداً وهو أن ثمة شيئاً واحداً يمكن أن يطلبه المرء أكثر من الحب: المياه».

كنت في الرياض عندما أمطرت، وكان الناس يتبادلون التهاني كأنه عرس العاصمة. لا حديث إلا عن المطر. ولا كلام إلا عن الوسم، أي مطر الخريف، الذي يحرك التراب ويلونه ويرسل الطيور تغني مثل أطفال المدارس وقد أبلغوا بإجازة مفاجئة. وجئت من الرياض إلى الرباط فوجدتها غارقة في البحيرات والأرض من حولها خضراء مثل ملعب غولف والغابة التي أنشأها الحسن الثاني على 30 كيلومترا مخضرة معشوشبة وقد تسلل إليها البقر يرعى في غياب المتنزهين.

وقد طافت في اليمن وفاضت في عسير وأوحلت في الرياض وأغرقت في نجران وشلت السير في جدة، والناس فرحة تنتظر الصحو لكي تخرج إلى ألوان البر وخضرة التنهاة والزهر الذي يطلع فورا من الأرض العطشى كأنه كان ينتظر كلمة سر واحدة لكي يشرئب في كل مكان، بكل ألوانه.

وما بين الرباط وسلا فاض الرقراق في واديه على الجانبين، واغتسلت أسوار الرباط العنابية القديمة التي أصبحت عاصمة البلاد منذ 1912. والأسماء المطلقة على أبواب المغرب تبدو جميعها وكأن الناس أطلقتها. أي شاعر أطلق على النهر اسم أبي رقراق. لكن في سلا أيضا هناك باب معلاك وباب سيدي بوحاجة وباب فران وباب الخميس وباب سبتة وباب شعفة. وليس في الأمر خطأ مطبعي: شعفة لا سعفة.

وإذا كانت جدران الرباط عنابية فجدران قصر محمد السادس في سلا رمانية اللون. وحرسها قليل. وفي بعض الأمكنة سقط الطوب فاستبدل الجدار بالشجر. ربما في مكان أو مكانين. وقد كتبت في الصيف من طنجة عن مدى التغيير المرئي الذي حدث مع محمد السادس وأكتب الآن من الرباط، وقد يكتب المرء من أي مكان آخر في المغرب. ما حدث لا يمكن إنكاره أو تجاهله.

كنت أريد التأمل في المتغيرات بين الرباط وسلا وكان السائق يصر على أن يلقي عليّ «قصائده» التي كتبها في كل المناسبات: واحدة إلى طبيبه، وواحدة في «المسيرة الخضراء» وواحدة في اشتياقه إلى فاس، وواحدة في وفاة جدته فاطمة رحمها الله عن 86 عاماً ونيَّف. ولم يكن أمامي مفر في بلاد طارق بن زياد. وعندما اقتربنا من المطار ولاحظ أنني لا أبدي أي حماس «لشعره» المريع، قال إنه وضع «قصيدة» في لبنان. وانتظر أن أقول هات أسمعنا، فلم. فاستدرك قائلا إنه نسيها. وقلت وأنا افتح الباب يساعدني في ذلك الفرج: الحمد لله!