المهاجرون

TT

ظاهرة الهجرة بدلت شكل الحياة في مصر. فقد ادت هجرة الفلاحين الى المدن بحثا عن العمل إلى ترييف المدن في الملبس وحركة الناس في الشوارع وسلوكياتهم واحتياجاتهم. اما الهجرة إلى اوروبا واميركا وكندا فقد سلبت مصر علماءها ومثقفيها وبناة حضارتها، ومن نسل هؤلاء خلقت جيلا يتأرجح بين الانتماء للوطن الذي جاء منه الآباء وبين اوطان شهدت مولدهم ونشأتهم ولم نحوهم بما يكفي للاندماج الشامل. وهناك هجرة رجال كثر ونساء إلى دول الخليج التماسا للعمل والدخل الافضل.

وفي خضم الفرح بالانفراج المادي الذي ترجم في اغلب الحالات إلى فيلات في مجمعات سكنية وارفة على اطراف القاهرة والاسكندرية وإلى نفقات لتعليم الاولاد في مدارس خاصة اجنبية، ورحلات سياحية إلى اماكن براقة، في خضم تلك الافراح تغير وجه الحياة الاسرية تماما. انهارت زيجات وتهاوت بيوت وشرد اولاد وبنات جراء غياب الاب عن حياة الزوجة والاولاد. سفر الزوج وحده قرار يتخذه الزوجان على خلفية المصلحة العامة بحيث يظل الاولاد مستقرين في مدارسهم والام تسهر على تربيتهم ودراستهم بينما يضحي الاب براحته وحرمانه من انس البيت والاسرة لكي يوفر القدر الاكبر من دخله لاسرته. تدريجيا يتحول الاستعداد للتضحية إلى احساس بالغبن الشديد لأن الرجل يتحول من انسان إلى ماكينة صرافة لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم. وتدريجيا تتحول الزوجة الوفية المحبة إلى ديكتاتورة ترى انها تتحمل وحدها ثقل مسؤولية الادارة فلا اقل من ان تنفرد بسلطة القرار في كل شأن من شؤون الاسرة. والحقيقة هي انها تخجل من ان تعبر عن الشكوى الحقيقية وهي الحرمان من دفء الحياة الزوجية. أما الاولاد فقد تخضعهم ديكتاتورية ماما في مرحلة ما قبل البلوغ ولكن في غياب القدوة الذكورية في البيت يبحث عنها الولد خارجه ويصبح عرضة لاحتمالات لا يعلم بها الا الله.

لو قدر لي ان افعل لكتبت كتابا قوامه مئات الصفحات عن قصص ابطالها رجال ونساء وشبان وشابات من دم ولحم عاشوا تبعات الهجرة من اجل الكسب فانفصمت عرى المودة والرحمة وتحولت الافراح إلى اتراح. آخر تلك القصص التي وصلتني قصة شاب سافر ليعمل وبقيت زوجته في الوطن لرعاية الاولاد واكتفت بزيارات زوجها في المناسبات حين تسمح ظروف عمله. ومر العام تلو العام تلو الآخر حتى اصبح عدد السنين ثلاثين عاما بالتمام والكمال وتجاوز الرصيد عدة ملايين.

في احد الايام دق جرس باب الفيلا الرائعة وحمل الطارق باقة زهر مرسلة إلى زوجة المهندس فلان... ومع الباقة بطاقة تهنئة تقول مبروك ولادة الطفل الجديد.

جلست الزوجة تضرب اخماسا بأسداس فهي حتما اكبر من ان تنجب طفلا جديدا. والعنوان لا خطأ فيه. فما الذي حدث؟

حين واجهته اكتشفت ان زوجها التقى بزوجته الثانية حيث يعمل وتزوجها منذ سنوات. ولولا وجوده في القاهرة لما ارسلت الزهور إلى عنوان الفيلا. واصبح عليها ان تختار، اما ان يعلن الزواج الثاني واما ان يستمر الحال على ما كان عليه وتتظاهر بأنها لا تعرف.

ثلاثون عاما من الغربة تحول الشاب إلى شيخ وتحول الحبيب إلى غريب وتحول الوالد إلى زائر غريب يظهر في الاعياد.

لو اقترح زوجك ان يسافر للعمل قولي بأعلى صوت: أنا واولادي معك والا فلا.