مثال أوباما.. هل قابل للتصدير؟

TT

لا شك أن هناك عوامل موضوعية هي التي أنتجت أوباما. يمكن أن نذكر مثلا سهولة الخصم نظرا لسنه، مضافا إلى ذلك أن نائبته قد خذلته بأخطائها، ونذكر أيضا الحصيلة السيئة للرئيس بوش. وفوق ذلك الأزمة المالية التي وجهت الأذهان إلى الحاجة إلى التغيير.

ولكن كل هذا لا ينقص من القيمة الرمزية لانتصار (مبارك حسين) أوباما، كما يلح أحد الأصدقاء حينما يذكر اسم الرئيس الأميركي الجديد. فقد دخل الرجل الأسود البيت الأبيض، وهذا هو الرمز الكبـير، والعلامة القوية على انتصار القيم الأميركية. ففي أميركا كما قال أوباما، ليس ضروريا أن يكون المرء غنيا من أجل أن يتمكن من تنمية مواهبه، ويفتح لنفسه الطريق، ليصل إلى حيث يستطيع أن يصل. لن أستمر في تعداد مزايا ما حدث، ويكفي أنه منذ فبراير من السنة الماضية، والأميركيون يتقبلون أن يكون هناك مترشح أسود. وأخيرا صوت ملايين الأميركيين لفائدة رجل ينتمي إلى أقلية تمثل 13 %.

غير أنه لا بد من الإشارة إلى أنه إذا كان قد سقط طابو منيع، وظهر أن الأميركيين تخلصوا من آراء مسبقة مقيتة، فهذا لا ينفي أنهم ما زالوا منطوين على عقد مريرة، جعلت المرشح الديموقراطي يعلن براءته، المرة تلو الأخرى، من أنه مسلم، أو أن له رابطة تذكر بالعرب وخصوصا بالفلسطينيين، بل كان لا بد من لبس الكيبا ليثبت استحقاقه.

لقد سقطت صيغة «أبيض + أنغلوساكسون + بروتيستانت» التي كانت تلخص الصورة النمطية للأميركي العادي، وهذا في حد ذاته ثورة. وأصبح هذا التغير البارز في صورة الأميركي العادي، يمثل تحديا لمجتمعات تقدم نفسها أنها مثال للممارسة الديموقراطية المتقدمة. وبسهولة ذهب الذهن إلى بريطانيا وفرنسا، حيث الممارسة الديموقراطية عريقة، وحيث تقادم العهد باستقبال المهاجرين، والاستعداد لاستيعابهم في التشكيلة الثقافية والاجتماعية، وقبول توليهم مناصب آمرة.

ولكن التعددية العرقية في أميركا أقدم، والاحتكاكات التي وقعت هناك فيما بين الأعراق، أدت إلى اختبارات عسيرة، هي التي أفرزت التوازن الحالي الذي استقر منذ عقد الستينيات من القرن الماضي. ورأينا كيف أن الرئيس أيزنهاور قد تصدى بالقوة من أجل فرض مساواة الملونين، وتدخل الجيش الفيدرالي لضمان التحاق تلاميذ سود في ثانوية ليتل روك. ثم تطور الأمر إلى تحكيم قاعدة التمييز الإيجابي من أجل مساعدة السود على احتلال مواقع قيادية في مختلف المجالات. وقد فرضت القوانين تطبيق تلك الآليات، وساعدت السينما على تفريخ حالة من التقبل النفسي لقواعد المساواة، وأصبح عاديا بالنسبة لجمهور السينما أن يرى مظاهر التعدد والتعايش والمساواة، كأمر مسلم به في مشاهد الحياة اليومية الأميركية، أي أن تلك الممارسات استقرت في ثقافة المجتمع الأميركي. والآن ليس هناك استغراب من أن يكون في مواقع القيادة لاتينيون وسود إلى جانب البيض الأنغلوساكسونيين والبروتيستانت.

وما قامت به السينما في الولايات المتحدة، تم في أوربا بواسطة الرياضات على اختلافها، حيث على غرار الفرق الرياضية الأميركية المتنوعة الأعراق، أصبح العلمان الفرنسي والبريطاني يرفعان في ملاعب العالم بفضل بلاء أبطال ملونين. وأصبح عاديا في هذين البلدين على الخصوص وفي بلجيكا وهولندا، أن تجد مخاطبك في المواقع الأكاديمية ومختلف المهن الحرة والمصالح الحكومية، أشخاصا يحملون أسماء وسحنات من دول الجنوب.

وبمناسبة فوز أوباما أعرب تسعون في المائة من الفرنسيين عن استعدادهم لتقبل وجود مرشح أسود للرئاسة. ويقدمون كدليل على ذلك الاستعداد أن عدة مناصب وزارية بارزة قد أسندت في الحكومة الحالية لمتحدرين من الهجرة. لكن هذا لا يمنع من وقع احتكاكات في الأحياء الهامشية، ومن وقوع مواقف حرجة مثل تشيع الجمهور في الملاعب الرياضية لفرق البلد الأصلي، بل والإقدام على التصفير ضد النشيد الوطني الفرنسي. وما يمكن قوله الآن إن المجتمع الفرنسي منقسم على نفسه بخصوص مقتضيات الاندماج العرقي.

مما ذكر في هذا الصدد أن 10 % من الساكنة الفرنسية تنتمي إلى أقلية عرقية، وأن 7 % من ساكنة بريطانيا تنتمي إلى أقلية عرقية، بينما تصل النسبة في الولايات المتحدة إلى 13 % لكن إذا أضيف إلى تلك الكتلة اللاتينيون والآسيويون فإن نسبة غير البيض تصل إلى ثلاثين في المائة.

وفي فرنسا لا يوجد أي عمدة مدينة أسود. ولا تنعدم المحاولات التي قام بها مترشحون مغاربيون في لوائح لتشكيلات يسارية بدون نجاح. وفي بريطانيا ما زال محصورا عدد النواب المنتمين لأقليات عرقية في البرلمان، ولكن ليس هناك رفض مطلق بل تقبل مبدئي من كلا الحزبين.

والأمر أشد تعقيدا في مجتمعات مثل إيطاليا وألمانيا، وخصوصا في إسبانيا. فهذه الأخيرة اعتادت لمدة خمسة قرون على تصدير مهاجرين إلى أميركا اللاتينية. ولم تبدأ في تقبل مهاجرين إليها، إلا في منتصف العقد السابع من القرن الماضي مع بداية الانتعاش الاقتصادي.

ونتج عن ذلك نشوء ثقافة إقصائية سيطرت منذ القرن15. وقام الكيان الإسباني على وحدانية الديانة واللغة، مما خلق تناقضات عديدة في المجتمع الإسباني وأدى إلى اضطرابات سياسية متواصلة لم تهدأ إلا باستتباب الديموقراطية بعد وفاة فرانكو. وهناك مذيعة سمراء واحدة في التلفزيون الإسباني تتلو نشرة أحوال الطقس، على عكس ما يراه المشاهد في الشاشة الفرنسية. وإلى سنوات قريبة قضت محكمة إسبانية بأنه لا حق لأحدهم في الحصول على الجنسية الإسبانية لأنه ليس مسيحيا.

وفي المدة الأخيرة، (2 نوفمبر 2008) تحدثت الصحف عن حالة جندي مسلم في القوات المسلحة الإسبانية، أمرت قيادة الجيش بعدم تجديد عقده «لانعدام الثقة في ولائه». وقالت الجريدة إن الجندي واسمه فؤاد، قضى في الجيش ثماني سنوات، وتقدم هذا بشكوى أمام القضاء، معززا ملفه بنقطه الجيدة وهي 7،8. وفي مرحلة الاستئناف أمام المحكمة العليا بالأندلس تم إقرار إلغاء القرار الذي أصدرته قيادته في حقه، لأن ملفه لامع من الناحية المهنية، ولأن ما تم التلويح به من أن «تقريرا سريا جعل رؤساءه يشكون في ولائه» لا يمكن الاستشهاد به. والقرينة الوحيدة هي أن الجندي فؤاد، وهو من مدينة سبتة المحتلة، كثير التردد على المغرب.

ومن الجدير بالذكر أن ثلاثين في المائة من بين الـ 8000 جندي المرابطين في مدينتي سبتة ومليلية هم مسلمون. وقد عرضت أمام القضاء الإسباني في السنة الماضية ثلاث حالات نزاعية طرفها مسلمون، في حين تضاعفت إجراءات مراقبة حثيثة للجنود المسلمين منذ انفجارات مدريد 11 مارس 2004. وحدث فعلا أنه على أثر انفجارات نيويورك قبل ذلك في سنة 2001 كان أحد الجنود قد تعرض للاعتقال حينما هتف في الشارع العام، وهو في حالة سكر، بحياة بن لادن.

إن هذه النوازل تطرح بجد مسألة وجود مسلمين في حظيرة القوات المسلحة الإسبانية، وهي تجر إلى مناقشة على صعيد مبدئي تقود إلى مسالك عويصة، لأن الأمر يتعلق بأقصى حالات الاختبار، ويزيد من وعورتها أنها تمس دينا ما فتئ يثير أسئلة معقدة في بلد غربي، وأنها تتأثر بالقرب الجغرافي مع بلد ما زالت العلاقات معه تحيل على عقد تاريخية، لم يقع فكها.

وهذا يبين المسافة التي قطعتها أميركا بالوصول إلى نقطة أوباما.