تعزيز الاعتدال عبر الحوار

TT

العالم في أزمة.. ولا أحد يعرف كيف ولا متى ولا ما إذا كان الخطأ الذي حصل سيتم تصحيحه على نحو كامل، لكن الشيء الأكيد هو أن آثار هذه الأزمة ستظل تلازم العالم لأمد طويل، أقول هذا لأنني أؤمن أن السبب الأساسي للأزمة المالية التي يعاني منها عالمنا اليوم لا يعود لأسباب تتعلق بالسوق وآلياته فحسب، بل ـ وهذا ما يدمي القلب ـ فإنها تعود أيضاً إلى خلل في المبادئ والقيم العليا التي تحكم وتوجه الطريقة التي اعتدنا عليها في معظم تعاملاتنا، وليس في الطريقة ذاتها، فبدلا من الاحتفاء بالاعتدال والتسامح فإن السلوك البشري وخطابه (السياسي والاقتصادي والديني وكذلك الاجتماعي)، تم دفعهما إلى نهايات غير منطقية ولا أخلاقية، فبتنا نرى الجشع والعنف يحلان محل السخاء والتراحم، وصار التيار جارفاً.

يخبرنا التاريخ الحديث أن الفكر المتطرف يظهر على السطح وينمو ويزدهر في أوقات الأزمات. ولسوء الحظ أن ما أصابنا ليس مجرد أزمة أصابت الجيوب فحسب، بل إنها (وهذا هو الأدهى)، أزمة أخلاقية ذات أبعاد خطيرة. لقد أصبحت الأرضية الآن أكثر خصوبة من أي وقت مضى لنمو العنف والتطرف، وأصبحنا جميعاً شركاء في هذا المأزق.. حيث لم يعد بإمكاننا الحديث عنا (نحن) في مقابلهم (هم)، لأن السِّمة الثابتة لهذه الأزمة هي خروج العالم أجمع كشركاء وضحايا لهزاتنا القاسية.

فابتداء من الحديث عن القرية العالمية التي بشّر بها مارشال مكلوهان، إلى عالم توماس فريدمان المسطح والمستوي (حيث يظهر كل شيء جلياً على السطح، وحيث تنساب المعلومة والفكرة بدون جهد)، أصبحنا نسمع أن عالمنا وصل في نهاية المطاف إلى مرحلة يتقاسم فيها بني البشر الألم والبهجة.. ولسوء الحظ فإن ما نتقاسمه اليوم يغلب فيه طابع الألم على البهجة.

لكن القصة لم تكتمل بعد.. فمن حُسن الحظ أن العديد من القادة ممن يتصفون بالحِكمة ـ المؤكد أن العالم بحاجة إلى المزيد منهم ـ يستشعرون الأخطار التي يشكّلها هذا التيار الجارف على مستقبلنا المشترك، فهم يدركون عمق الرابط بين العولمة.. وعدم التسامح والتطرف.. أحد هؤلاء القادة تراه اليوم يسعى جاهداً لحل هذه المعضلة.

لقد بدأ خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، هذه الرحلة قبل ثلاث سنوات، حين دعا إخوته قادة الدول الإسلامية للاجتماع في أطهر بقعة للنظر في مسائل التطرف، ودعا إلى قيام نهضة إسلامية تكون فاتحة عهد جديد من الإنجازات العلمية والاقتصادية والثقافية التي من شأنها أن تسترجع وتماهي العصر الذهبي للإسلام الذي امتدّ لعدة قرون وناشدهم أن يمدّوا جسور الحوار مع العقائد الأخرى من أجل تجنب صدام حضارات يأكل الأخضر واليابس.

وقد أكد ـ حفظه الله ـ تلك الرسالة بالقول والفعل، الأمر الذي أدى إلى عقد لقاء تاريخي في شهر يونيو من عام 2008م، حضره عدد كبير من علماء المسلمين الذين دعوا إلى تفعيل الحوار مع بقية الأمم والشعوب، وأعقب ذلك بوقت قصير مؤتمر حوار الأديان في مدريد، الذي رعاه خادم الحرمين الشريفين، والعاهل الإسباني الملك خوان كارلوس، وفي لحظة مؤثرة ومثلجة للصدر في تاريخ البشرية، التقى ـ حفظه الله ـ بعدد هائل من القادة الدينيين وبشريحة واسعة من زعماء العقائد الفلسفية الرئيسة في العالم.

وفي خطاب مقنع ومؤثر، انتقد فيه خادم الحرمين الشريفين، التطرف، ودعا إلى بذل المزيد من الجهود لإجراء حوار بين الأديان، حيث قال حفظه الله: «إن البشرية تعاني اليوم من ضياع القِيم والتباس المفاهيم، وتمر بفترة حرجة تشهد بالرغم من كل التقدم العلمي، تفشّي الجريمة، وتنامي الإرهاب، وتفكك الأسرة، وانتهاك المخدرات لعقول الشباب، واستغلال الأقوياء للفقراء، والنزعات العنصرية البغيضة.. ولا مخرج لنا إلا بالالتقاء على كلمة سواء عبر الحوار بين الأديان والحضارات».

لقد قادت مبادرة الملك عبد الله في مدريد إلى الترتيب لعقد اجتماع عالي المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة التأمت أطرافهم في الثاني عشر من شهر نوفمبر في مدينة نيويورك بحضور جمع كبير ومؤثر من قادة العالم ويتطلع المؤتمر إلى فتح حوار جاد بين الأديان والثقافات يقوم على الصراحة والاحترام المتبادل.

ويُؤمل أن يضع هذا الحوار (أو يجدد ويصلح) الأساس الذي تقوم عليه القِيم اللازمة لكي تصبح العولمة نافعة لكافة أبناء البشر.

والحقيقة الراسخة أنه لا يوجد سبب لليأس من أن ذلك لن يتحقق، فالتاريخ، والتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص يخبرنا أن التفاعل القائم على التسامح المتبادل بين أتباع الديانات الثلاث الرئيسة يمكن أن يؤطر الإنجازات الكبيرة في الثقافة والمعرفة الإنسانية، وهذا هو ما حصل إبان العصور الذهبية للإسلام. لقد اتّسمت المرحلة المبكرة من الإسلام بالاكتشاف الأخلاقي والتنوير الروحي والعلمي والحوار بين الأديان. وقد أثبت الاجتماع المهيب في رحاب الأمم المتحدة وفي أجواء يسودها التفاؤل، أن هذه الروح لم تفقد قدرتها على العطاء ونشر قيم الخير والتسامح.

إن البعض (من أتباع العديد من الديانات) يفضلون إغلاق عقولهم بدلاً من فتحها على ما هيأه الله ـ سبحانه وتعالى ـ من إعجاز رباني في خَلق هذا الكون الرائع والمُبهر.. نتيجة فهم منقوص لما نعيشه وما تفضل به الله ـ سبحانه وتعالى ـ من نِعمة ورحمة.

إن المبادرة التي أطلقها ورعاها خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ تنقض رؤيتهم المشوّهة من أساسها.. والمؤكد أن الكثير من العقلاء في كل مكان من عالمنا الصغير يشعرون بالقلق إزاء ما يرونه من تنامي حالة التطرف والاستقطاب، وكما قال الأديب والمفكر «فيكتور هوغو»، فهم يعلمون «أن الفكرة التي آن أوانها أشد قوة وتأثيراً من زحف الجيوش الجرارة».

دعونا نتضرع إلى الله جلّت قدرته ونعمل على ترسيخ هذه الفكرة الشجاعة والمعطاءة.

مقال نشر في صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» الأميركية