قليل من الهدوء يرحمكم الله

TT

من أروع الأصوات على الأذن هو: صوت المطر الهتان عندما يتساقط على الأرض وأسطح المنازل، وصوت هسيس النار عندما تشتعل بالحطب في ليلة شتائية، وحفيف الهواء العليل عندما يسري بين الأعشاب، وتتابع أمواج البحر عندما تنداح على شاطئ ممتد من الرمال.

ولكن المطر إذا تحول إلى فيضانات، والنار إلى حرائق، والهواء إلى (تورنيدو)، وأمواج البحر إلى (توسنامي).. عندها تتحول الأصوات ليس إلى إزعاج فقط، ولكن إلى كوارث.

أتذكر في طفولتي أن أقوى صوت كنا نسمعه هو صوت طلقة (مدفع الإفطار) في رمضان، ومن الظواهر التي شغفت قلوب الرحالة والمستشرقين كانت هي سماعهم لأصوات المؤذنين التي تتناهى لهم على البعد في سكون الليل بكل هدوء وشفافية، أما اليوم فالكثير من الأوروبيين في بعض البلاد الإسلامية، فإنهم مع الأسف يتعمدون ويصرون على أن يأخذوا إجازاتهم في شهر رمضان كنوع من الهروب.

ومن نعم الله على الإنسان أنه أعطاه العقل، ومن نعم العقل (الاختراعات)، ومن أعظم الاختراعات (الميكروفونات) التي فرح بها المسلمون (وما صدقوا على الله) والتقطوها، ووظفوها بطريقة ارتجالية (صمَّخوا) بها الآذان، وأفزعوا الأطفال، وأقلقوا المرضى والعجائز والنتيجة دائماً سلبية عكسية.

والقرآن هو القرآن الذي لا كلام قبله ولا بعده من شدة الحلاوة والطلاوة، وهذا الكلام العظيم لو أنك قرأته بواسطة (الميكروفون) ورفعت الصوت على الآخر وقربته من أذن مستمع (لارتَّج) عليه وتخلخلت مفاصله.

والله سبحانه في محكم كتابه العزيز قال: «ولا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها واتبع بين ذلك سبيلا»، السؤال هو وبكل أمانة: هل الاستعمالات الرهيبة للميكروفونات الآن من قبل المسلمين قد أدت الغرض المطلوب من عدم الجهر ـ أي عدم (اللجلجة) ـ أم العكس هو الصحيح؟! ومن حسن الطالع أنه في مصر قد طرحت قبل عدة سنوات فكرة، أعتقد أنها عقلانية وحضارية وإنسانية في نفس الوقت، وهي أن يتوحد (الأذان) دفعة واحدة في جميع مساجد القاهرة عبر شبكة كهربائية واحدة، وبواسطة مؤذن واحد، وتكون مقتصرة على المساجد الكبيرة، حيث أن الهدف من (الأذان) هو إعلام الناس بدخول وقت الصلاة، وهذا ما سوف يتحقق بهذه الطريقة المريحة، بدلا من الزعيق والصياح وتعالي الأصوات من هنا وهناك، والى الآن هم (محلك سر)، لم يستطيعوا أخذ القرار.

إن التفكير السليم لا يكون إيجابياً إلاّ في الهدوء والسكون، ولا أعني السكون المطلق لا أبداً، لأن ذلك لا يتأتى للإنسان إلاّ في داخل القبر، ولكن احترام الإنسان وعدم إيذائه في كل حاسة من حواسه الخمس، ومعها كذلك احترام عقله ونفسه.

وليس ذلك صعبا أو مستحيلا إذا ما تسلحنا بسلاح المنطق، وتثقفنا بثقافة (الشفقة) وأحببنا للآخرين مثلما نحب لأنفسنا، ولكي لا يكون عليّ مستمسك وأورط نفسي بلساني بما لا تحمد عقباه، فإنني استدرك سريعاً، واستثني من ذلك من كانت هوايته الصوت العالي والضجيج، فهذا لا أريد منه أبداً أن يحب لي ما يحب لنفسه، وإلاّ كانت مصيبة (متلتلة) وأنا بصراحة ماني ناقص، فطبلة أذني تشكو (الويل والثبور وعظائم الأمور).

[email protected]