ينقصهم أن يقولوا: إن التوحيد والوضوء (صناعة غربية)؟!

TT

هل اختيار الملك عبد العزيز آل سعود (طارق الافريقي) رئيسا لهيئة اركان جيشه، قبل سبعين عاما «!!!» كان تقليدا ومحاكاة للمساواة التي أدت الى انتخاب باراك اوباما رئيسا للولايات المتحدة ؟.. هذا مستحيل، بدليل أن الملك العربي المسلم فعل ذلك قبل ان يكون لباراك اوباما وجود على هذا الكوكب.. أم ان الملك عبد العزيز طبق مبدأ المساواة (محاكاة) لنماذج أمريكية معاصرة له ـ قبل سبعين عاما ـ في المساواة بين السود والبيض؟.. هذا مستحيل أيضا. لأن امريكا يومئذ كانت مثقلة الى حد الارهاق بصور التفرقة العنصرية الحادة بين البيض والسود، بدليل ان الحقبة التي تلت هذا التاريخ ـ بعقدين اثنين مثلا ـ كانت مشحونة بـ (البغضاء العنصرية): النفسية والسلوكية والحياتية، ففي مطالع الستينات من القرن العشرين ـ على سبيل المثال ـ: اغتالت مجموعة (كوكلوكس كلان) البيضاء العنصرية: مارتن لوثر كينج، ومالكوم اكس، وميد غار ايفيرس، بتهمة ان اصوات هؤلاء كانت عالية في المناداة بالمساواة!!.

والسؤال المتحفز للبروز ـ ها هنا ـ هو: من أي مرجعية تنويرية استمد الملك عبد العزيز (مبدأ المساواة) ـ في وقت مبكر ـ وهو يعين طارق الافريقي في منصب عسكري عال وحساس: لم يظفر به أمراء، ولا أبناء قبائل؟!

المرجعية ـ يقينا ـ هي، الاسلام كتابا وسنة وحضارة وتراثا وسوابق اجتماعية وسياسية وأخلاقية.. ومن يجادل في هذه الحقيقة كمن يجادل في مرجعية الملك المؤسس في اختياره كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله): عنوانا لراية دولته، إذ هو بهذا إنما أحيا سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الاختيار الأصيل العزيز الموفق، فقد اعتمد النبي ـ من قبل ـ ذات الكلمة عنوانا لراية دولته في المدينة.. وهذه مرجعية (أصلية)، كما ان (الوضوء) مصدره القرآن والسنة. بالنسبة لطارق الافريقي الذي تبوأ ذلك المنصب (السيادي الرفيع)، فقد حدثني الأمير سلمان بن عبد العزيز (وهو المرجع الموسوعي الحي والناطق في تاريخ الملك عبد العزيز وحياته) حدثني عن نماذج عديدة ومضيئة في هذا المجال.. (وقد نعود الى هذا الموضوع في قابل الأيام لسببين: سبب التطبيق العملي لمبدأ المساواة.. وسبب: ان لهذا التطبيق علاقة وثقى بنسيج الوحدة الوطنية).

ولئن انتظم مقال الاسبوع الماضي منظومة من الدلائل والبراهين التي تزخر بها المرجعية الاسلامية العظمى في مجال (المساواة).. ومن تلك المنظومة البرهانية: وحدة الاصل والنشأة بين الناس.. وان التنوع في الالوان دليل على الابداع الالهي الجميل: لا يجوز ان يكون تعلة للتفرقة العنصرية البغيضة.. لئن انتظم المقال السابق هذه الدلائل، فإننا نشعر ـ بل نحس ـ بأن الموضوع يتطلب مزيدا من البسط والاشباع والتأصيل.

ان المساواة ـ في دين الاسلام ـ: ليست كلمة مبتوتة، ولا مبدأ معزولا، ولا نصا مفردا يتيما في دستور، بل المساواة في دين الاسلام (منهج كامل): كامل النصوص.. كامل المفاهيم.. كامل المقاصد، وهذا هو البرهان:

1 ـ حين جاء الاسلام كان (معيار التفاضل) بين العرب (وبين الناس جميعا في تلك العصور)، هو:

أ ـ التفاخر بكثرة الأموال والأولاد: «وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين»، فعمد الاسلام الى نقض هذا المعيار وتحطيمه: «وما أموالكم ولا اولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون».

ب ـ وكان معيار التفاضل ـ عند العرب ـ هو العصبية العمياء للقبيلة:

نجز رؤوسهم في غير بر

فما يدرون ماذا يتقونا

فعمد الاسلام الى نقض هذا المعيار وتحطيمه: قال نبي الاسلام ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: «من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة، أو يدعو الى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل فقِتلَةٌ جاهلية».. وأعلن براءاته وبراءة الاسلام من دعاة العصبية ومهيجيها ومقاتليها وقتلاها فقال: «ليس منا من دعا الى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية».

ج ـ وكان معيار التفاضل بين الناس هو (اللون)، ولذا كان من أوجع اساليب التعيير والتشنيع والحط من القيمة ان يُعير المرء بلونه الاسود ـ مثلا ـ او بلون أُمه السوداء.. وحين سمع النبي هذه المقالة نقضها سراعا، واتهم قائلها بأنه فيه جاهلية: «أعيرته بأمه؟ انك امرؤ فيك جاهلية».. فالتعيير بالسواد: خصلة جاهلية، وسلوك جاهلي، ولغة جاهلية نقضها الاسلام نقضا تاما، وهو نقض مؤيد ـ الى جانب هذا ـ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى او بعمل صالح».

2 ـ وإذ ينقض الاسلام المعايير الجاهلية ـ والجاهلة والباطلة والمتخلفة ـ في التفاضل بين الناس، فإنه (بمقتضى منهجه الايجابي في تقديم البدائل): أرسى المعايير الحقة الراقية البديلة للتفاضل بين الناس.. ومن ذلك:

أ ـ معيار (الخيرية) المرتبط بـ (جهد كسبي ذاتي): لا بلون، او عصبية، أو.. أو..:«إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية»، سواء كان هؤلاء المؤمنون العاملون للصالحات: عربا، او عجما، سودا، او بيضا، او حمرا، او سمرا، او صفرا.. فمؤهلا (الخيرية) هما: الايمان والعمل الصالح، وهما متاحان للناس كافة: باختيارهم وارادتهم وطموحهم وكفاءتهم، وقد سبق عربا اقوام غير عرب في هذا الميدان كما هو موثق في سجل الحضارة الاسلامية.

ب ـ معيار التقوى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم».. (أتقاكم): ليس احسنكم لونا (فالالوان سواء عند الله وفي ميزانه)، وليس انقاكم معدنا. فالمعدن واحد: بحتمية (التركيب البيلوجي الموحد للناس)، ولذا قال النبي: «كلكم لآدم. وآدم من تراب»، وهذا تفسير لقول الله جل ثناؤه: «ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون».. ولعل هذا المعيار أو المفهوم يتطلب شيئا من (الفلسفة)، بمعنى: (التعليل العقلي للشيء). فإذا افترض: أن السقف الأعلى للرقي الانساني هو (اللون الأبيض) مثلا، فكيف يرتقي الانسان الى أعلى بعد ذلك؟.. انه سيجمد ـ من ثم ـ عند هذا السقف.. أما (التقوى)، أي السمو النفسي: المنهجي والسلوكي، فسماوات الرقي فيها مفتوحة أبدا على ما هو أرقى وأسمى: ومفتوحة للأبيض والأسود وكل الألوان، على حين أن سقف اللون الأبيض مقصور على البيض فحسب!.

وبنقض المعايير المتخلفة للتفاضل بين الناس، وبتأسيس المعايير (التقدمية) لهذا التفاضل: تتحقق (المساواة): بمعناها الصحيح والشامل لبني آدم جميعاً: بلا استثناء، ولا عنصرية، ولا منّ من أحد، فالله وحده هو الذي خلق الناس، وهو الذي ساوى بين الناس: وفق هذه الموازين.

وكنا قد ضربنا مثلا بسيدنا بلال بن رباح ـ رضي الله عنه ـ، وكان ذلك (مجرد مثل)، والا فإن تاريخ المسلمين مفعم بنماذج اجتماعية وعلمية وإدارية تبوأت مكانات عالية في مجتمع المسلمين ودولة الإسلام (وقد نعود إلى هذا الموضوع في قابل الأيام أيضا بإذن الله تعالى).. ومن الدلائل على مساواة بلال بسادات قريش ـ في هذا المثل ـ: أن بلالا تزوج أخت عبد الرحمن بن عوف القرشية (وعبد الرحمن بن عوف كان مرشحا للخلافة إذ هو أحد ستة أوصى عمر بن الخطاب باختيار أحدهم خليفة للمسلمين).. وهذا الزواج (المطبق لمبدأ المساواة، والناقض للعنصرية العرقية).. هذا الزواج ليس فلتة ولو مفردا، فقد زوج عتبة بن ربيعة سالما (وهو مولى امرأة من الانصار): زوجه ابنة أخيه: الوليد بن عتبة بن ربيعة. والسوابق كثيرة جداً.. ولقد تنبه الباحثون الغربيون المنصفون الى المساواة الحقة في الاسلام فابتهجوا بها وأثنوا عليها.. يقول البروفسور رشبروك وليامز: «إن هذه التقاليد الاسلامية تشمل مبادئ المساواة بين الأرواح الانسانية أمام الله وتقرر أواصر الأخوة العالمية بين جميع المؤمنين بغير نظرة الى العنصر أو اللون».

فما بال أقوام مسلمين يجادلون في ذلك مجادلة تعبر عن (الجور الفكري واللغوي) في التفكير والتعبير: الجور على الاسلام ومبادئه العلمية، وسوابقه التطبيقية؟.. عجيب!!.. أإذا شرع الله ـ خالق الناس ـ المساواة بين الناس: صار هذا الشرع (مرّا)؟! واذا نادى بالمساواة فرنسيون أو أمريكان صار هذا النداء (حلواً): «ما لكم كيف تحكمون»؟.. ما لكم كيف تفكرون؟، إذ إن (الحكم) صورة من صور طريقة التفكير.