هذا من فضل ربي

TT

وصلني هذا المنشور وفيه ما يلي: «أخي إني لا أعرفك، وأنت لا شك لا تعرفني، لكن الذي جعلني أكتب إليك هو ذلك الشيء الذي وضعته فوق منزلك، يناطح السحاب، ويعانق السماء، ويفتح قلبه لكل وافد، ويصافح بيديه كل قادم، وقد مد قامته بكل فخر وسرور، ورفع رأسه بكل تكبر وغرور».

«ثم جلست أنت داخل منزلك، متكئا على كل ما لطف من الفرش ورق، واسترخيت على السندس والاستبرق، وأمرت بالمرطبات والمأكولات، وأغلقت النوافذ والأبواب، وتعطرت بالأطياب، ثم تناولت الجهاز بيدك وقلبته كيفما تشاء، ونفسك الأمارة بالسوء تقول لك: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى، ها هو العالم بين يديك فتجول فيه إن أردت».

ـ عرفت أخيراً أنه يقصد ويحارب (الدش والتلفزيون)، فاعتدلت بجلستي وأكملت ما يقول: «إنك سوف تشاهد في هذه الشاشة ما ينكت في قلبك النكتة السوداء، فيموت قلبك، ويبقى جسمك، فتكره كل خير، وتحب كل شر، وتبتعد عن كل معروف، وتقترب من كل منكر، وتبدو على وجهك آثار كآبة وضيق وهم عميق».

عندما وصلت إلى هذا الحد أصبت بما يشبه الفزع ولكنني تمالكت قواي واستمررت بالقراءة وقال يخاطبني: «ولكنك يا أخي لا تعرف أن في آخر هذا الطريق حفرة عميقة، ذات هوة سحيقة».

«تخيل نفسك وقد نزل بك الموت، ودخلت القبر ورأيت ظلمته ووحدته وضيقه ووحشته، وكيف تقطعت أوصالك، وتفتت عظامك، وبلي جسمك، وأصبحت قوتاً للديدان».

«قف مع نفسك هذه الوقفة المصيرية، واعلم أنك ما وجدت في هذه الدنيا إلاّ للعبادة، ولم تخلق للهو واللعب والعبث والفرجة».

«فانتصر على نفسك، وتغلب على هواك، واخرج هذا (الدش) اللعين من بيتك، وإنني ما كتبت هذه الأحرف إلاّ لخوفي على وجهك الأبيض من أن يصبح كالحاً مظلماً قميئاً».

عندما انتهيت من هذه القراءة اعتراني شيء من الذهول المشوب بقليل من الارتعاد.

صحيح أنه يوجد في بيتي (دش) وأكثر من تلفزيون، ولكنني إذا شاهدته ليس شرطاً أن استرخي على الاستبرق، وأشرب المرطبات، وأغلق النوافذ وأتعطر، لا أبداً فقد أشاهده وأنا جالس على كرسي من الخشب وواضعاً رجلا فوق رجل وأشرب قدحاً من (الزنجبيل)، كما أنني لا أذكر أن مشاهدتي للقنوات الفضائية قد أجبرتني على كراهية أي خير، وحببتني بكل شر، وأبعدتني عن كل معروف، وقربتني من كل منكر، ولم تجلب لي الكآبة والضيق والهم، بل إنها بالعكس شرحت صدري، وهدأت أعصابي، وعرفتني على شعوب العالم أكثر، وثقفتني، وأطربتني، وزادت من قناعتي أن الدنيا ما زالت بخير، وان الإنسان يتقدم للأفضل.

وأنا أعلم علم اليقين وقبل أن يصلني هذا المنشور أن الله تعالى ما خلق الناس إلاّ ليعبدوه، وهذا هو ما أفعله في حياتي، وأعلم كذلك أنه سبحانه استعمرنا في هذه الأرض لكي نبنيها ونكتشفها ونطورها، وهذا ما أحاول أن أفعله في حياتي بشتى الوسائل بما فيها الوسائل الإعلامية، ثم من هو المغفل الذي ينكر حقيقة الموت حتى يخوفني منه صاحب المنشور، فليس هناك من كائن على وجه هذه الأرض إلاّ إلى زوال وتحلل، وعزائي أنني لست الوحيد الفاني، فقبلي ومعي وبعدي كل مليحات العالم الجميلات، ولو أن صاحب المنشور يستمع للاغاني لقلت له: شنف أذنيك (برباعيات الخيام)، واسمع أم كلثوم وهي تقول: فامش الهوينا (أن هذا الثرى) من أعين ساحرة الاحورار.

وفي الختام أطمئنه على أنني لست من هواة مشاهدة قنوات الموبقات، وهذا من فضل ربي.

[email protected]