العرب والمعضلة الإسرائيلية

TT

كانت إسرائيل، وما زالت إلى حد بعيد، هي حجر الزاوية في الثقافة السياسة العربية المعاصرة، والمحدد الرئيس للسياسة في المنطقة. ورغم أن الفلسطينيين أنفسهم، وهم أصحاب القضية في المقام الأول، قد فقدوا الوعي بقضيتهم عملياً، ودخلوا في مرحلة من الصبيانية السياسية، وعراك الأطفال على صغائر الأمور، إلا أن موقع «القضية» في الثقافة السياسية والسلوك السياسي العربي المعاصر لم يتغير كثيراً في الكثير من جوانبه، وذلك مثل تلك الأنظمة «الثورية» التي تأتي باسم الشعب، ولصالح الشعب، فتقضي على الشعب ومصالح الشعب، ولكنها تستمر في الحديث باسم الشعب وعن الشعب، فقد تحول «الشعب» هنا إلى أسطورة سياسية مبررة لكل شيء وأي شيء، ولا وجود لها إلا في الذهن، حتى لو تعارض ما في الذهن مع ما في الأرض.

إسرائيل والصهيونية كانت دائماً المحور الذي تدور حوله بقية مكونات الثقافة السياسية العربية المعاصرة، والمحدد لاتجاه بوصلة السياسة العربية عموماً، بالإضافة إلى كونها «المبرر» الأساس لكل إخفاق أو فشل أو مأساة في الحياة العربية المعاصرة، بدءاً من إخفاق مشروع النهضة العربية الكبرى ووحدة العرب الكبرى، وحتى موت طفل جوعاً على ضفاف شط العرب في البصرة، إلى موت مهاجر غرقاً على ضفاف المتوسط والأطلسي، مروراً بموت امرأة فقراً على ضفاف النيل في وادي النيل، إذ لولا إسرائيل والصهيونية، وهذه تجر في أذيالها الاستعمار والإمبريالية والاحتلال، لما كان التشتت، ولما كان التخلف، ولما كان الجهل، ولما كان المرض، ولما كان ضنك العيش، ولما كان بالتالي الموت جوعاً وغرقاً ومرضاً وفقراً. دائماً فتش عن إسرائيل والصهيونية، لدرجة أن المرء لا يتصور أن العرب جادون في عدائهم لإسرائيل، إذ لو زالت إسرائيل الواقع والأرض، فكيف يمكن الحفاظ على بقاء إسرائيل الذهن والخيال، التي تختنق الحياة السياسية العربية بدونها، إذ يضيع المبرر، ولا يبقى اتجاه تشير إليه البوصلة العربية. إسرائيل والصهيونية تحولتا إلى كل شيء في الحياة السياسية العربية المعاصرة، بمثل ما أصبح الماضي والماضوية تابو الثقافة العربية «المعاصرة»، الذي لا يجوز مسه إلا بكل قداسة وقدسية، فهو السبب والمسبب والمبرر، وكذلك إسرائيل والصهيونية، التي لا يجوز مسهما إلا بكل دنس ودونية.

فمثلا، لم يلفت انتباه البعض، وهم بعض كثير حقيقة، بعد فوز باراك أوباما التاريخي والكاسح في انتخابات الرئاسة الأميركية، إلا نيته في تعيين رام إيمانويل، عضو مجلس النواب الأميركي عن ولاية إلينوي، وابن الإسرائيلي بنيامين إيمانويل، في منصب كبير موظفي البيت الأبيض، وهو منصب هام من حيث قرب العلاقة مع الرئيس، ومدى التأثير الذي قد يمارسه على تشكيل اتجاهات الرئيس وقراراته. فإيمانويل، رغم جنسيته الأميركية، لا يمكن إلا أن يكون إسرائيلياً قلباً وقالباً، وبالتالي فإن المتوقع من أوباما، الأميركي الكيني، في فترة رئاسته لن يكون في صالح عالم العرب، (وهو صالح مُقاس بسياسته تجاه «القضية»، والموقف من إسرائيل بطبيعة الحال)، مهما كان التفاؤل بمجيئه، وبخلفيته «الإسلامية» والأفريقية. والحقيقة أن النظر إلى أوباما وفترة أوباما من خلال «عين القضية»، أي البحث عن المحيط الإسرائيلي، أو الصهيوني أو حتى اليهودي حوله، شيء طبيعي، ومسألة مفهومة، حين أخذ الحديث عن الثقافة السياسية العربية المعاصرة في الاعتبار، وبالتالي فإن أي تحليل سياسي عربي للسياسة الأميركية، لا بد أن يكون في أن أول ما يبحث عنه «المحلل» العربي هو مدى الوجود اليهودي في المؤسسة الأميركية الحاكمة، وخاصة مؤسسة الرئاسة، لتحديد مدى النفوذ اليهودي، والتغلغل الإسرائيلي بالتالي. بمعنى آخر، فإن من ثوابت التحليل السياسي لدى الكثير من محللي العرب، هو الإقرار بالنفوذ اليهودي في السياسة الأميركية بداية، والمطلوب هو مجرد تحليل مدى هذا النفوذ، وليس وجوده من عدمه، أو أي شيء آخر.

وفي الوقت الذي يقوم فيه محللو العالم بتحليل السياسة الأميركية من خلال مؤسساتها وكيف تعمل، وصناعة القرار فيها وكيف تتم، ودراسة شخصيات صانعي القرار الأميركي، وعلى رأسهم الرئيس بطبيعة الحال، من أجل فهم كيف يتم اتخاذ القرار هناك، وكيف يمكن الاستفادة من تحليل ذلك في التأثير على صناعة القرار، نجد أن ما يقوم به العرب، أو لنقل الكثير من محللي العرب، هو البحث عن اليهود هنا وهناك، ومحاولة تحليل مدى «تصهين» العقل الأميركي، ومن ثم الخروج بنتيجة في الغالب لا تتغير، ألا وهي أنه لا فائدة.. فأميركا، ومهما كانت التغيرات فيها، فإنها تبقى راعية الصهيونية، وحامية إسرائيل، فلا تتوقعوا منها شيئاً. المشكلة هنا أن العرب، بقيادة محلليهم وأرباب الفكر فيهم، يسكنون إلى مثل هذا التحليل، ويبقون قابعين في انتظار ما لا يجيء، ورغم أنه لا يجيء، فإنهم من المنتظرين على أية حال. تفاؤلات بمجيء باراك أوباما، ولكن احذروا، فهو أميركي أولا وآخرا، وبالتالي لا بد أن يكون متصهينا، والدليل هو رام إيمانويل، أما بقية القضايا، إن كان في الذهن بقية من قضايا، فلا وجود لها.

مشكلة العرب، في ظني، أنهم اختزلوا قضاياهم إلى قضية واحدة هي القضية الفلسطينية، أو «القضية»، وحولوها إلى ثابت من ثوابت ثقافتهم وسياستهم، فأصبحوا أسرى لها، وأماتوها على أرض الواقع، إذ تفتت إلى قضايا، وإن بقيت أسطورة معششة في الأذهان، كما الشعب في أذهان أهل الثورة، وأهملوا بقية القضايا، أو هم أرادوا تجاهل بقية القضايا من خلال هذا الاختزال. ثم قام العرب بربط هذه القضية بدولة عظمى، باختلاف العظمة وفق ظرف الزمان، لا يرون أن حلا ممكنا بدونها، في ذات الوقت الذي يقولون فيه إن هذه الدولة لا يمكن أن تحل القضية لانحيازها ورعايتها للدولة التي يرفضون، ولا أدري كيف يمكن أن يتم مثل هذا «البارادوكس»، إلا في عقل هو ذاته بارادوكس، مثل عقل عربي جامع للتناقضات، حيث لا تدري من أين تنتهي الأسطورة وأين تبدأ الأرض، وحيث لا يمكن تبين تلك الخيوط التي تحدد أين ينتهي الماضي ومن أين يبدأ الحاضر، رغم أن «كان» فعل ماض واضح، «ويكون» فعل مضارع أوضح.

فلسطين قضية عربية لا شك في ذلك، ولكنها ليست القضية الوحيدة، ويجب أن لا تكون القضية الوحيدة. فباسم هذه القضية، احترق في عالم العرب الأخضر واليابس، فلا حلُت القضية، ولا حصل العرب على رفاه الفرص التي كانت متاحة. ليس المطلوب التخلي عن هذه القضية، بصفتها قضية من القضايا، ولكن المطلوب هو إخراجها من تهويمات الأسطورة إلى وقائع الأرض، بحيث لا تبقى بوصلة اتجاه أو محور ثقافة ومحدد سياسة. ليكن أوباما أو غيره صهيونياً، ولتكن أميركا أو غيرها راعية للمصالح الإسرائيلية في المنطقة، ولكن يجب أن لا تكون إسرائيل أكبر همنا، ولا قضية فلسطين منتهى غايتنا، إذ حتى لو زالت إسرائيل جملة وتفصيلا، وأصبح لدينا دولة فلسطينية جديدة تمتد من النهر إلى البحر، تُضاف إلى قائمة دول العرب، فإن الحال سيبقى هو الحال، اللهم إلا أن جامعة الدول العربية كسبت عضواً جديداً. فطالما أهملت بقية القضايا، الجوهري منها والعابر، وطالما بقيت الثقافة السياسية العربية على ثوابتها، فإن إسرائيل ستبقى في الذهن المؤسطر رغم زوالها، وسيُبحث عن إسرائيل أخرى هناك، أي في الذهن المؤسطر، كي تكون مبرراً لكل ما جرى ويجري، ومشجباً لإخفاقات ما جرى ويجري.

إسرائيل، ومن ورائها الغرب وأميركا، لم تمنعنا، ولا تستطيع أن تمنعنا إذا أردنا، من بناء مدارس جيدة، ووضع مناهج دراسية بهم مستقبلي. إسرائيل لن تمنعنا، ولا تستطيع أن تمنعنا، من احترام الإنسان وحقوق الإنسان في ديارنا، لو كانت هذه إرادتنا فعلا. وإسرائيل لن تمنعنا، ولا تستطيع أن تمنعنا، من محو الأمية في ديارنا، أو قطع دابر الفساد في بلادنا. وبنفس المنطق يمكن القول إن حل قضية فلسطين، أو قضايا فلسطين، لا يعني أن يكون على حساب قضايا التنمية في ديارنا، وليست هي إسرائيل التي صاغت لنا «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، ودفعتنا إلى دفع ثمنه الباهظ في المادة والإنسان، بل نحن من كان له من الصائغين، ونحن من كان له من المنفذين، «وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون». بطبيعة الحال سيأتي من يقول إنه لولا وجود إسرائيل، لما كان مثل هذا الشعار وتبعاته، ولما كان وكان، وهنا يبدأ العقل الأسطوري في العمل من جديد، ونعود إلى نفس الدائرة، وهو ذات العقل الذي لا انفكاك لعالم عربي بأسره دون التخلص منه، كما تخلصت منه أمم أخرى، فانطلقت وفازت، فهل نحن فاعلون؟