ما هو الدور السعودي في إصلاح النظام الاقتصادي؟

TT

ما أشبه جورج بوش بالصبي المشاكس الذي لم يسمع نصائح أبيه المجرب. ها هو يتأهب لمغادرة المنصّة العالمية كأقل الرؤساء شعبية في تاريخ الولايات المتحدة. فقد أنجز كارثتين حلّتا بأميركا في عهده: خسارة دورها السياسي المتفرد في قيادة العالم، وانهيار النظام المالي الذي فرضته قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية (1944).

قمة واشنطن الاقتصادية أشبه بمأتم وداعي لجورج بوش. البكائيات الدولية حمَّلته ضمنا مسؤولية التلكؤ في معالجة بوادر الأزمة. مع ذلك، ظل للحظة الأخيرة متمسكا بآيديولوجيا اليد الخفية. يد السوق الحرة في إدارة الاقتصاد، من دون تدخل الدولة، وبلا أي تخطيط اقتصادي.

في انتظار اقتصاد «غودو» أوباما، لم تخرج قمة العشرين بقرارات محددة ملزمة، إنما بتفاهم دولي حول ضرورة إصلاح النظام المالي العالمي، بالعودة الى تدخل الدولة. لا رجوع عن الاقتصاد الحر، لكن لا بد من فرض رقابة على السوق الأشبه بالغوريلا (كينغ كونغ) الذي استعارته وول ستريت من هوليوود، لزلزلة العالم وتدميره بلا رحمة أو معرفة.

ما هي معالم هذا الإصلاح؟ الرأسمالية كهوديني الساحر الذي يخرج سالما المرة تلو المرة، كلما أودع مكبلا بالأغلال في صندوق محكم الإغلاق. الرأسماليون المطالبون بـ «بريتون وودز. ثانية» وأولهم الفرنسي ساركوزي، لم ينجحوا إلى الآن في الغاء الأولى. ربما اكتفوا بادخال تعديلات جوهرية أو تجميلية عليها. بيد أن الواضح ان تحكُّم نادي الدول الصناعية الكبرى (G8) باقتصاد العالم أشرف على الانتهاء. الدليل ان النادي فتح أبوابه لاثني عشر عضوا جديدا يمثلون الاقتصادات الحيوية النامية، من بينهم الصين والهند والسعودية.

باختصار، معاهدة بريتون وودز فرضت عملة الدولة الكبرى المنتصرة في الحرب، كاحتياطي نقدي في مصارف العالم المركزية، وكعملة تبادلية في التجارة الدولية. كان الضمان إمكانية تحويل هذه العملة (الدولار) إلى ذهب مرصوف في صناديق مجلس الاحتياط الفيدرالي (المصرف المركزي الأميركي). مع تدويل الدولار، أنجبت بريتون وودز توأمين مدلّلين: المصرف الدولي (كان دوره الأساسي إعادة إعمار أوروبا بالدولار). وصندوق النقد الدولي، ومهمته التحكم في اقتصاد الدول النامية والمتحررة من الاستعمار، بتقديم القروض المالية لها.

بعد سلسلة الهزائم العسكرية والأزمات المالية التي حلت بالامبراطورية (الرومانية) الجديدة، تبلور أخيرا اتجاه أوروبي نحو توسيع وتأكيد مهمة صندوق النقد كشرطي مالي دولي في مخفر متقدم، لمراقبة حركة المال والمصارف والشركات والمؤسسات والهيئات المالية والتجارية. والانذار والتبليغ المبكر فورا عن أي خلل أو انحراف يودي بالعالم الى كارثة مشابهة لتلك التي يعيشها اليوم.

السعودية الدولة العربية الوحيدة التي دعيت إلى قمة واشنطن. الدعوة اعتراف عالمي بانتقال مركز الثقل المالي والسياسي العربي إلى الخليج، وبالذات إلى السعودية. قيمة الناتج الوطني الإجمالي في السعودية يوازي المستوى العالمي لاقتصاد مزدهر (نحو 500 مليار دولار).بالاضافة إلى دورها في تقرير المصالح والسياسات العربية، ومركزها الجيوسياسي في مواجهة التطلعات الايرانية في الخليج والمشرق، وكمصدِّر رئيسي للطاقة التي يقوم عليها اقتصاد العالم.

هذه المؤهلات تفرض جملة اسئلة فورية؟ ما هو المطلوب من السعودية عالميا؟

ما هو الدور الذي تستطيع السعودية أن تلعبه في النظام الاقتصادي والمالي العالمي؟ أي دور في إصلاحه وتوجيهه؟ ثم هل تستطيع السعودية، كمبدأ مشروع لأية دولة، أن تحقق من خلال هذا الدور مكاسب سياسية تخدم المصالح القومية العربية، كخدمتها للإسلام من خلال اللقاءات والحوار بين الأديان؟

أكتب هذا الكلام قبل أن أتمكن من الاطلاع على توجهات الرأي والموقف التي قدمتها قيادة العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز خلال القمة. لكن في إمكاني إبداء ملاحظات قد تكون مفيدة، قبل أن توضع السياسة السعودية موضع التطبيق في مجال النظام المالي العالمي.

إذا كان المطلوب عالميا من السعودية مجرد تقديم المال إلى صندوق النقد الدولي، من دون أن تمارس حقها في امتلاك حصة أكبر من حقوق التصويت في مجلس إدارة الصندوق، وفي تقرير سياسة الإقراض، لمن؟ وما هي الشروط؟ فأعتقد ان من الأفضل أن تقدم السعودية هذا المال مباشرة إلى الدول التي ترى أنها أكثر حاجة للمعونة.

أوروبا وأميركا تريدان تعويم اقتصاد الدول الشيوعية سابقا، كأوكرانيا وجورجيا والمجر، من مال الصندوق. لا أحسب ان السعودية معنية بمواكبة الغرب الرأسمالي في شن حرب باردة جديدة لعزل روسيا، من خلال إسناد الأنظمة الأوروبية الشرقية المفلسة والمعادية لبوتين.

صندوق النقد الدولي شرطي مالي سيئ السمعة أصلا. لتقديم القروض، فهو يشترط شروطا تقشفية مجحفة ومهينة للدولة المقترضة: فرض ضرائب جديدة. خفض الانفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، بما فيها التربية والصحة. إعادة جدولة قيمة العملة الوطنية. هذه الشروط التعجيزية أدت إلى انهيارات مأسوية. اجتاحت الفئات الاكثر حاجة والأقل قدرة. رفعت معدل البطالة. خفضت قيمة الأجور. رفعت معدل التضخم (غلاء الأسعار). وأخيرا، هزت الاستقرار السياسي في الدولة المقترضة.

طبعا، تقديم القروض مباشرة للدول المحتاجة يفرض إقامة جهاز فني خبير بأساليب الإقراض والسداد، إلى جانب جهاز هندسة تكنوقراطي آخر للتطبيق والتنفيذ الميداني للمشاريع. السعودية تستطيع تطوير صناديق الدعم التي اعتمدتها سابقا. يمكن الاستعانة أيضاً بخبرة التكنوقراط العرب والأجانب.

لكي يكون الإقراض أجدى وأنفع، فمن الأفضل ان تتولى هذه الأجندة السعودية الإشراف مباشرة على تنفيذ المشاريع في الدولة المقترضة. بعد الدراسة الفنية اللازمة. درجت السعودية في السابق على تقديم منح وقروض مالية للدولة العربية أو الصديقة، أو وُضِعت كاحتياطي في مصرفها المركزي. هذا الأسلوب حجب عن المجتمعات العربية، في صمت ونكران النظام المقترض، الدور الذي اضطلعت السعودية في دعمها وإسنادها.

الصين تقدم قروضها مباشرة إلى الدول المحتاجة (السودان ونيجيريا مثلا)، وليس عن طريق الصناديق الدولية. الخبراء والمهندسون والعمال الصينيون ينفذون بأنفسهم خطط التنمية والمشاريع الإنشائية في الخارج. ولعل السعودية تجد في التجربة الصينية ما هو جدير بالتقليد. التجربة تخفف من وطأة البطالة، وتوجه الأيدي السعودية، بعد تأهيلها وتدريبها، للعمل في مشاريع الخدمة الإنسانية الخارجية.

قيمة المال ليست في كنزه، انما في كيفية إنفاقه واستثماره. إذا كان وضع المال في الصناديق الدولية يوفر للسعودية مشاركة فعالة في الرقابة على أداء النظام المالي العالمي، بحيث تمثل السعودية مصالح الدول النامية وتدافع عنها في مجلس إدارة صندوق النقد، فلا بأس في هذه المشاركة.

وإذا اختارت السعودية تقديم المساعدة مباشرة لاقتصاد الإنتاج والخدمات في الدول المحتاجة، فهذا الخيار يوفر فائدة كبيرة للسياسة السعودية، في أداء دورها الإنساني، وخدمة السمعة والمصالح السياسية العربية.