على مقام الصمت تدوزن أوتار قلبها!

TT

حينما انطفأ النهار، وتثاءبت النوارس على صواري المراكب الراسية، كانت «جدة» تشعل فتيل قلبها لتستوي بالقرب من البحر حسناء تنصب شباك هواها لاصطياد السهارى والمغرمين، ومصابيح الطرقات «فتات القمر» تسكب زخات من الضوء تمتزج بالعتمة فيصبح لليل جدة لون الشيكولاته، ونعومتها، وتأثيرها السحري..

قال صاحبي وهو يمسح زجاج نظارته ـ كعب الفنجان ـ بطرف شماغه: ما سر عشقك لليل هذه المدينة؟

قلت: اعتادت جدة في الليل أن تدوزن أوتار قلبها على مقام الصمت، وتترك للعشاق حرية الغناء، وهي في الليل أشبه بامرأة جميلة غطت وجهها الحلو بغلالة شفافة تزيده بهاء، وتزيدك فضولا.. الليل يشعرك أن هذه المدينة ترتدي ثياب سهرتها الأنيقة التي تطرزها النجوم، خاصة حينما يتدلى القمر الفضي على جيدها قلادة تهدهدها سيمفونية المد والجزر، فترحل صوبها أشواق المواويل، وأحلام النواخذة، عكس النهار السافر المتبرج.

تنسكب أغنية عتيقة غارقة في «جداويتها»:

«يا شارع حبيب الروح

عمالي أجي وأروح

مستني منايا يطل

متمني بسري أبوح»

تختلط أبواق المركبات، برائحة شواء الذرة على الرصيف، بطرقات شحاذ محترف على زجاج نافذة العربة، ويتبعثر صوت فوزي محسون كشعاع ضوء..

على صخرة داخل الماء جلس اثنان وثالثهما البحر.. فتمتم صاحبي المأزوم قائلا:

ـ ليس كل الظن إثما.

كورنيش أبحر يشبه ممرا غمرته الحياة، وصياد عجوز يقف على طرف الرصيف ينتظر كرم البحر، تعبره المراكب الصغيرة، وقد انطلقت منها ضحكات، وعطر، وموسيقى، وأفرح صغيرة، وبحار عاشق مفارق في إحداها يرفع عقيرته بكسرة شعبية:

«كلا معانق حبيبه في هنا وسرور

وأنا معانق خشب وسط البحر بيعوم»

لوح له العجوز بكفه مواسيا، فشد البحار زمام الغناء قليلا، ورسم بالمجداف في الهواء مشاعر امتنانه ومضى..

وحينما عدت متأخرا حاولت أن أتقمص السرير، لكن النوم ظل يخلعني، فنهضت أبحث في الغرفة عن نافذة لوجهي، وكانت المسافة بين جنوب المدينة وشمالها بضعة كيلومترات وعشرات السنين.

[email protected]