المغتربون السودانيون أما آن لليل أن ينجلي!

TT

لم يعرف السودانيون بأنهم قوم مهاجرون؛ كانت هنالك هجرة وعلي نطاق ضيق وسط النوبه في شمال البلاد من الحلفاويين والمحس والدناقلة. وكان هؤلاء يهاجرون الى مصر والسعودية ولبنان والقليل منهم هاجر عبر السفن الي بريطانيا وامريكا ولعل اشهر هؤلاء صديق عبد الرحيم الذي ورد اسمه في قصيدة سبل كسب العيش في السودان.. تلك القصيدة التي استقرت في كل وجدان الاجيال المتعاقبة من السودانيين والتي مطلعها:

في القولد التقيت بالصديق أنعم به من فاضل صديق

هاجر صديق عبد الرحيم للولايات المتحدة الامريكية وتنقل في اعمال متعددة حتي استقر به المقام سائقاً بالسفارة السودانية بواشنطن.

بدأت هجرة السودانيين تتزايد في عهد الرئيس الاسبق جعفر نميري بعد حملات التأميم والمصادرة للنظام انذاك للسودانيين من ذوي الاصول الشامية والاغريقية الذين تمت مصادرة ممتلكاتهم الخاصة ـ وهاجر كذلك الكثير من السياسيين المعارضين لحكم نميري؛ وعندما تدهور الاقتصاد السوداني وانخفض سعر الصرف للجنيه السوداني واصبحت الأجور لا تفي بالحاجات الضرورية بدأت هجرة السودانيين وباعداد كبيرة لدول الخليج العربي وشملت هذه الهجرة كل فئات العاملين «من اساتذة الجامعات والمعلمين والأطباء والمهندسين بل امتدت حتى شملت الحرفيين والعمال وغيرهم».

وعندما تزايدت اعداد المغتربين وشهد الاقتصاد السوداني المزيد من التدهور والذي تمثل في شح النقد الأجنبي بانهيار الصادرات وتصاعدت قيمة الواردات عندئذ ابتدع النظام «نميري» فرض ضرائب على فئة العاملين بالخارج وأنشأ جهاز العاملين بالخارج لتحصيل هذه الضرائب، كما ربط تحصيلها بجواز السفر فلا يتم تجديد جواز السفر إلا بعد تسديدها ولا تمنح تأشيرة الخروج من البلاد إلا بعد تحصيل الضريبة؛ وكعادة الحكومات في السودان فان الجبايات تبدأ بسيطة ولكنها تتصاعد حتى تصل الي معدلات كبيرة. وحقيقة ان فرض هذه الضرائب لا مبرر له لان العاملين بالخارج لا يتمتعون بالخدمات التي تفرض الضرائب من أجل تمويلها كخدمات التعليم والصحة وغيرها.

وحينما جاءت حكومة الإنقاذ استحدثت المزيد من الاتاوات على المغتربين ففرضت رسوم القدوم وهي رسوم يدفعها المغترب دون غيره من السودانيين والأجانب عند وصوله مطار الخرطوم. وفرضت رسوم القناة الفضائية ورسوم صالة الوصول بمطار الخرطوم وكل هذه الرسوم المثيرة للسخرية واجبة السداد وبدون سدادها لا يستطيع المغترب العودة لمكان عمله.

لقد درجت كل الحكومات المتعاقبة على اعتبار المغتربين هدفاً سهلاً وصيداً ثميناً وهكذا دأبت على ارسال الوفود للترويج للمشاريع الخاسرة والفاشلة وعلى سبيل المثال لا الحصر مشروع سندس الزراعي الذي ساهم فيه المغتربون وانتظروا ما يزيد عن الخمسة عشر عاماً قبل ان يبدأ وبعد بداية المشروع اكتشفوا ان عليهم دفع امولاً طائلة للري وان ارض المشروع ليست بالاراضي الخصبة «وما أكثر الاراضي الخصبة بالسودان!». وهكذا اصبح هذا المشروع يدرس في الجامعات كمثال للمشاريع الفاشلة ولعل أبلغ ما كتب عن هذا المشروع؛ ما كتبه الدكتور عبد القادر محمد احمد مدير ديوان الضرائب الأسبق.. بان مدير المشروع الشيخ الجليل الصافي جعفر قد أبكى مساهمي المشروع مرتين مرة داخل المسجد الذي يؤم فيه الناس بالصلاة ويقف فيهم خطيباً ومرة أخرى خارج المسجد وذلك لضياع مدخراتهم..

ومن المشاريع التي خُدع فيها المغتربون ايضا تلك المضاربة التي روج لها الاستاذ بدر الدين طه عندما كان مديراً للبنك الزراعي وهي مضاربة لشراء معدات زراعية أجلها سنة واحده تصفي بعدها الارباح؛ ولكن لم يحدث ذلك وبعد مماطلة شديدة تمت التصفية بالعملة السودانية بدلاً من الريال السعودي رغم ان حساب المساهمة تم بسعر الريال السعودي عند بداية المضاربة وحينها فقد الجنيه السوداني اكثر من 75% من قيمته عند تصفية المضاربة وعليه خسر المضاربون جل أموالهم.. ثم تلك الوفود من مصلحة الاراضي التي تذهب الى دول الخليج العربي مروجة للاراضي وتزعم ان اسعارها منافسة ويشتري المغتربون منهم حتى اذا عادوا الى البلاد اكتشفوا ان الاسعار التي اشتروا بها تفوق كثيراً اسعار الاراضي في السوق.

العدل والإنصاف يقتضيان ان يجد المغتربون من الخدمات ما يبرر الجبايات التي يدفعونها وللأسف الشديد هذا لا يحدث بل حتى شهادات ابنائهم الثانوية تعادل بطريقة لا تمكن أي طالب من الدخول للجامعات السودانية ضمن كشف القبول العام إلا إذا احرز الطالب اكثر من 100% ويستثني من ذلك الطلاب المتفوقون الذين أحرزوا أكثر من 98% فهؤلاء يقبلون بالجامعات حسب رغبتهم ولكن هؤلاء عددهم قليل وعلى السواد الاعظم من الطلاب اللجوء للقبول الخاص بالجامعات الأخرى.. كما ان ابناء المغتربين المقبولين بالجامعات وحتى في كشف القبول العام عليهم ان يسددوا الرسوم الدراسية بالدولار والتي قد تفوق الالف دولار احيانا وذلك حسب مهنة الوالد وليس هنالك أي اعتبار للضرائب التي يسددها هؤلاء الآباء عبر السنين.

لقد آن الأوان ليتبدل الحال الى الأحسن ولعله من حسن الطالع ان يتولى مسؤولية الجهاز د. كرار التهامي..وهو رجل ذو خبرة عظيمة في الإدارة والتنظيم ونرجو ان يبدأ الرجل في ترتيب البيت من الداخل وأعني بذلك العاملين في الجهاز نفسه إذ ان المغترب يلقي معاملة خشنه ان لم نقل غير كريمة وما زال البعض يذكر كيف ان عالماً بقامة البروفيسور الراحل محجوب عبيد تم الإعتداء عليه بالضرب وفي مباني هذا الجهاز من قبل احد منسوبيه حيث ان هذه الحادثة كانت من الحوادث التي لا تنسى ولا تغتفر..

أقول ان على د. كرار التهامي تقع مسؤولية التغيير الجذري في معاملة المغترب معاملة انسانية كريمة باحترامه وتسهيل إجراءاته وان يكون موضع الثقة الكاملة لا ان يطلب منه القسم وعلى المصحف الشريف في كل صغيرة وكبيرة..

آن الأوان لأن تلغى كل الضرائب والجبايات على أبنائنا العاملين بالخارج فالدولة لم تعد بحاجة للنقد الأجنبي بعد تصدير النفط وآن الأوان ان تتوقف تلك الوفود التي تشد الرحال للمغتربين في مهاجرهم لتبيعهم الاوهام والمشاريع الخاسرة وتبيعهم الترام على حد قول الإخوة المصريين.

آن الأوان لكي نقول للمغتربين شكراً لكل ما قدموه من أموال كسبوها بالعرق والسهر والبعد عن الوطن والأهل والاحباب؛ آن الأوان لكي تقدم الدولة لهم الإعفاء الجمركي في السيارة والأثاث لمن أراد العودة للوطن؛ آن الأوان لليل ان ينجلي.. والامل معقود على د. كرار التهامي أمين جهاز العاملين بالخارج لتحقيق كل ذلك. نسأل الله له التوفيق.

* كاتب وأكاديمي سوداني