باكستان.. ومشكلات الدين والدولة والانتماء

TT

منذ انفصال الأقاليم، التي تُشكّلُ باكستان وبنغلادش اليوم، عن الهند على أثر الاستقلال عن بريطانيا عام 1947، ما تحسّنت العلاقاتُ بينهما، ولا صارت طبيعيةً أو عادية.

ويرجعُ ذلك لعدة أسباب مثل النزاع بشأن كشمير، والنزاع بشأن الأقليات العرقية والدينية لدى الطرفين، والنزاع على الحدود والمياه. وهذه الأسبابُ «الظاهرةُ» أدت إلى ثلاث حروب كبرى بين البلدين كسبتْها جميعاً الهند، فضلاً عن عشرات الحوادث على الحدود وبداخل كشمير، ما كسبها أحدٌ من الطرفين، لكنها أثبتت أنّ الهند لديها أيضاً مشكلاتٌ مهمةٌ في بنائها الوطني والقومي، ولا تقتصر على كشمير.

على أنّ الأسبابَ التي ذكرْناها؛ إنْ علَّلَتْ أسبابَ التوتُّر الدائم بين الطرفين؛ فإنّها لا تُعلِّلُ أسبابَ ظهور باكستان، ومنذ الخمسينات من القرن الماضي، باعتبارها دولةً فاشلة، ومن ضمن «فشِلها» انقسامُها إلى دولتين، وعدمُ قدرة نظامها على الاستقرار بالمدنيين وبالعسكر، وأولاً وآخِراً أنه ليس هناك إجماعٌ فيها بشأن القضايا الكبرى، وأهمُّها قضيةُ الانتماء.

الواقع، أنه وفي العقد الأول من القرن العشرين الماضي، كان البريطانيون قد هيمنوا على الهند هيمنةً كاملة، وكان الهنود جميعاً يتعرضون لضغوط الاستعمار، وبخاصةٍ الأكثرية الهندوسية التي بدأت تحمل قضية الانتماء القومي للوطن الهندي. لكنّ المسلمين ـ ومن بينهم النخبة المغولية التي كانت تحكم بالهند منذ القرن السادس عشر ـ كانوا يتعرضون لضغوطٍ مزدوجة: ضغوط لإنهاء إحساسهم بامتيازات القوة والسيادة باعتبار أنّهم كانوا حكاماً للهند أو لأجزاء منها خلال الخمسمائة عام الأخيرة ـ وضغوط الأكثرية الهندية التي حوَّلتْهم بالتدريج إلى أقلية في الواقع السكّاني أولاًَ ثم في الوعي ثانياً. والنخبتان السياسيتان والثقافيتان الهندوسية والمسلمة من صناعةٍ بريطانية. وقد استطاع غاندي وأرباب حزب «المؤتمر الهندي» استيعاب زملائهم من النخبة حتى مطلع الثلاثينات من القرن الماضي بتعليلين: الانتماء الوطني الواحد، والتوحُّد في وجه الاستعمار البريطاني الذي أضرَّ بالطرفين، وبالمسلمين على الخصوص. لكنّ الوعي الثقافيَّ الخصوصيَّ لدى النخبة الإسلامية من جهة (والعلمانيين منهم على الخصوص!)، ورفضها القاطع التحول إلى أقليةٍ ضمن الكثرة الهندوسية الساحقة، طوَّرا لديها التفافاً (من خلال حركة الرابطة الإسلامية)، وأثمرا دوافعَ وسعياً من أجل الاستقلال. والاستقلال مشروعٌ مستحيلٌ لأنه يقتضي أمرين: اعتبار الإسلام «قومية» في الدولة الجديدة رغم التبايُن الإثني واللُّغوي والجغرافي بين مسلمي الهند ـ والأمر الثاني ضرورة جمع المسلمين في دولة بمقتضى التماهي بين الدولة والأمة في الفكر القومي الأوروبي آنذاك. وهذا أمرٌ مستحيلٌ أيضاً. لأنه فيما عدا الأجزاء الشرقية من السند والبنجاب والبنغال،لا يشكِّل المسلمون أكثريةً في أيّ ناحية. وإذا أُريدَ جَمْعُهُم من أجل الدولة، كما جُمع اليهود في إسرائيل؛ فلا بُدَّ من تهجير أكثر من ثلاثين مليوناً من أنحاء الهند المختلفة، إلى أقاليم الأكثرية الإسلامية. وفضلاً عن التهجير والمذابح 1947-1950، كان من ضمن الإشكالية الثانية هذه بقاء كشمير ذات الكثرة المسلمة تحت الحكم الهندي. وقد أصرَّ الهنود على الاحتفاظ بها ضمن دولتهم الاتحادية، وبحكمٍ ذاتيٍ، لرمزيتها وأهميتها التاريخية بالنسبة للهند، ولوجود مصادر المياه الهائلة فيها، والشديدة الأهمية للهند وباكستان، وأخيراً لأنها في تخومها الجبلية مع ما صار يُعرف بباكستان تشكل حاجزاً طبيعياً يحمي الدولة الهندية الجديدة تُجاه الصين وتُجاه باكستان. إنما إذا كان هذا العامل، عامل القدرة على الانفصال السكاني والطبيعي عن الهند قد شكّل صعوبةً كبرى ما تزالُ باكستان تُعاني منها أشدَّ المُعاناة (في قضية كشمير وانطلاق الحركات الاستقلالية المسلَّحة منها، ومنها تنظيم «عسكر طيبة» الذي قام بالعملية الإرهابية الأخيرة ببومباي)؛ فإنّ المشكلة الأهمّ والأبلَغ والتي أدت إلى فشل المشروع والدولة، هي مشكلة الهوية والانتماء، والتنظيم الداخلي. في مسألة الهوية، اعتبر المؤسِّسون ( محمد علي جناح ورفاقه في الرابطة الإسلامية) الإسلام ديناً قومياً برمزياته وطابعه العامّ. وأرادوا للدولة أن تبقى دولةً مدنيةً عصرية. لكنْ ومنذ اليوم الأول واجهوا مسألة الهوية هذه، وطبيعة النظام والقانون فيها. فالجماعة الإسلامية بزعامة أبو الأعلى المودودي (وكان قد أسَّسها بالهند عام 1941، وانتقل بها إلى باكستان)، فهمت من إسلامية الشعب والدولة إقامة دولةٍ دينيةٍ تُطبّقُ الشريعة. فنشب النزاعُ منذ البداية على الدستور، وظلّت الدساتير مؤقَّتة، وتأسْلمت المضامين بالتدريج (رئيس الدولة ينبغي أن يكونَ مسلماً، والشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع). ومن جهةٍ أُخرى فإنَّ الهوية الإسلامية العامة، ما استطاعت تجاوُزَ الإثنيات والقوميات، ولا إلغاءها. فقد ظلَّ الباكستانيون الشرقيون بنغالاً لهم لغتهم وتقاليدهم، والباكستانيون الغربيون سنداً وبنجاباً وبشتوناً، وظهرت فئةٌ رابعةٌ هي فئة المهاجرين، أي الذين لجأوا من الهند إلى باكستان بعد قيام الدولة عام 1947، وهؤلاء بدورهم يزيد عددُهُم اليومَ على العشرين مليوناً، وينتمون إلى إثنيات ولغات مختلفة. وكان الخُلْفُ الرئيس بين باكستان الشرقية والغربية (والهند بينهما!) إحساس البنغاليين أن قوميتَهم مضطهَدة، وأنّ البنجابيين والسند يسيطرون على مقدَّرات الدولة الاتحادية. وقد تفاقم لديهم هذا الشعور بعد توالي الانقلابات العسكرية، وتعطيل الحياة السياسية في البلاد، لأنّ الجنرالات الكبار والصغار كانوا جميعاًَ من الأجزاء الغربية للبلاد، فاستولى على البنغاليين الإحساس بأنهم ممنوعون من إدارة شأنهم العامّ! واستغلّت الهند هذا الشعور، وعاونت البنغاليين عسكرياً في العامين 1971و 1972 ضد باكستان الغربية، بحيث انفصلت الأجزاء الشرقية من الدولة، وشكّلت جمهورية بنغلادش، إحدى أفقر الدول في العالم، والتي ابتُليت مؤخراً أيضاً بداء الانقلابات العسكرية!

وهكذا فقد أُضيف للفشل في كتابة دستورٍ للدولة، الفشلُ في استيعاب التبايُن الإثني واللغوي ضمن الإسلام، رغم أنَّ 85% من الناس هناك سُنّة، وعلى المذهب الحنفي! فالإثنيةُ الكبرى تصلُحُ مبدئياً لإقامة دولةٍ قوميةٍ في الأزمنة الحديثة، أمّا دينٌ عالميٌّ مثل الإسلام؛ فإنه لا يصلُحُ لذلك لأنه تغييرٌ في طبيعته التعددية، وإلاّ فكيف يكونُ عالمياً، وديَن دعوةٍ مفتوحة؟ ثم إنّ الإسلام ما عرف أُطروحة الدولة الدينية إلاّ مع الجماعة الإسلامية، والإخوان المسلمين قبل ستين عاماً، وهذا بعد أن فشلت الدولة الدينية في الغرب، وأدتْ إلى تحطُّم المسيحية. والذي أراهُ أنّ الدولة الدينية الإيرانيةَ الجديدة لن تستمرّ، وهذا إن لم تؤدّ إلى انقسامٍ جديدٍ في المذهب الشيعي! وما استطاع العسكريون الباكستانيون أن يلعبوا الدور الذي لعبه الجنرالاتُ الأتراك في الحفاظ على وحدة الدولة؛ لاختلاف طبائع الكيانين. فتركيا ما كانت انشقاقاً عن كيانٍ آخر، ولا انتهجت نهجاً توسعياً. لكنْ كما لم يحلّ الإسلام المشكلة الإثنية بداخل باكستان؛ فإنه لا القومية التركية الاندماجية، ولا إسلام حزب العدالة والتنمية، سيتمكنان من حلّ مسألة الإثنية أو القومية الكردية!

إنّ هذه المشكلات البنيوية في الدولة الباكستانية، حالت دون الاستقرار السياسي والأمني، كما حالت دون الانتظام في إدارة الشأن العامّ. وأُضيف لذلك عاملٌ ثالثٌ أو رابعٌ أو عاشر. ففي الحرب الباردة انحازت باكستان للولايات المتحدة، وصارت الأخيرة مظلةً لها. واعتبر العسكريون والسياسيون الباكستانيون أن تكليفات الولايات المتحدة لهم هي ميزةٌ يستطيعون استغلالَها في جَعْل الدولة الباكستانية ضرورةً إقليميةً، وهي كانت كذلك بالنسبة للولايات المتحدة وللصين. لكنّ أحداً من السياسيين والعسكريين بباكستان ما انتبه إلى خطورة ذلك على الداخل الباكستاني المنقسم والمشتَّت. فظهرت جماعاتٌ تأتمر بأوامر أجهزة الدولة السرية أحياناً، ولا تأتمر بأمر أحدٍ أحياناً أُخرى: ضد الهند أو ضدّ هذا الطرف أو ذاك بأفغانستان أو في الصين أو حتّى بلدان آسيا الوسطى وروسيا والصين! وعسكر طيبة من تلك التنظيمات التي توجّهها القاعدةُ وتُديرُها، وهي تعملُ بحماسٍ ضد الهند بداعي الانتقام من «استعمارها» لكشمير!

هل فشلت الدولة الباكستانية؟ هي فشِلتْ بالفعل. لكنّ الفوضى التي يمكن أن تندلع في أوساط 150 مليون إنسان إذا انهارت السلطة هناك، لا تتحملها تلك الناحية الآسيوية الشاسعة، ولا العالَم كلّه. لذلك لا بُدَّ من الترقيع، ولا بُدَّ من الاستيعاب، ولصالح الهند والصين وآسيا الوسطى وروسيا وإيران، وإلى أجلٍ مسمًّى أو غير مسمًّى!