تحرير الدين من العنف

TT

 في أسبوع واحد وقعت تفجيرات مومباي الإرهابية واندلعت الفتنة الدينية في منطقة جوس النيجيرية مخلفة مئات الضحايا من المسلمين والمسيحيين. تبدو العلاقة بين الحدثين مفقودة، ومع ذلك، فإنهما يعكسان الظاهرة ذاتها مخاطر التطرف الديني الذي اخذ في إحدى الحالتين شكل إرهاب مدمر استهدف أبرياءَ عزلاً وشكل صداماً أهلياً على خلفية صراع سياسي في الحالة الأخرى. وإذا كانت الهند ثاني دولة من حيث حجم السكان في العالم تشكل إحدى خطوط التماس الدامية بين المسلمين وأحد المذاهب الدينية الكونية الكبرى (الهندوسية)، فان نيجيريا اكبر بلد أفريقي تشكل الخط الرئيسي الآخر بمكوناتها المسلمة والمسيحية اللتين تصادمتا كثيرا في السنوات الأخيرة.

يشبه حادث مومباي العمليات الإرهابية التقليدية التي مست العديد من كبريات المدن كنيويورك ومدريد وبالي والقاهرة.. وهو كما يعتقد من تدبير تنظيم «القاعدة» أو إحدى التنظيمات المتفرعة عنه أو المحتذية به، ولذا لا يمكن النظر إليه في سياق الفتنة الأهلية التي تعصف أحيانا بالمجتمع الهندي الذي يضم أقلية مسلمة كبرى، ومع ذلك، فإن تفجيرات مومباي قد تفضي إلى تأجيج عوامل الاحتقان الكامنة، وتترك أثرها على مشكل التعايش بين الديانتين، وما يرتبط به من وضع إقليمي متفجر (المشكل الهندي ـ الباكستاني). أما الحدث النيجيري فأكثر تعقيداً، والغريب أن الملحمة الدامية اندلعت في البداية بين مرشحي حزبين سياسيين غير دينيين، في منطقة يعتقد أن أغلبية سكانها من المسلمين، وإن كان حكامها تقليدياً من المسيحيين الذين يحتكرون المناصب التمثيلية والتنفيذية، مما خلف صراعا يلتبس الديني فيه بالطائفي وبالأزمات الاجتماعية. في الحالتين نلمس معادلة شديدة الخطورة، تحيلنا إلى معطيات ثلاثة تستدعي الانتباه والحسم:

أولا: على الرغم من اختلاف التركيبة الاجتماعية في البلدين، فإنهما يعانيان من الأزمة نفسها، أي أزمة المواطنة داخل كيان سياسي قادر على التعبير عن النسيج القومي في تنوعه الديني والعرقي. وإذا كانت الديمقراطية الهندية التي يطلق عليها تسمية اكبر ديمقراطية في العالم قد استطاعت احتواء جانب كبير من عوامل التوتر والاحتقان، إلا أن دمج الأقلية المسلمة لا يزال عصياً، مما يطرح سؤالا ملحا حول مسببات هذه المصاعب هل هي راجعة لطبيعة النظام السياسي المتبع (الذي يقوم على ترجمة حقوق التنوع الثقافي سياسيا) أم إلى وضع المسلمين الهنود أنفسهم الذين هم بقية من مسلمي شبه القارة الهندية الذين انفصلوا عام 1947 وشكلوا دولة باكستان المسلمة. أما الوضعية النيجيرية فأكثر تعقيداً، نتيجة لحجم المسلمين الذين يشكلون أغلبية نسبية في بلد ذي إرث إسلامي عريق. وبالنظر إلى هشاشة النسيج الاجتماعي الناتجة عن الخارطة العرقية (صراع القوميات الثلاث الكبرى الهوسا واليوربا والابوس)، في غياب تجربة ديمقراطية مستمرة ودولة مركزية قوية، مما حول الولايات الشمالية الى إمارات مستقلة عملياً.

ثانيا: إذا كان الصراع الهندوسي ـ الإسلامي محدودا بالسياق الهندي الضيق، وان كان له تأثيره الخطير إقليمياً، فان الاحتكاك الإسلامي ـ المسيحي ينذر بالخطر المحدق لاتساع ساحاته التي تمتد من البلقان إلى أفريقيا مرورا بالشرق الأوسط وآسيا. ولهذا الصراع أبعاده اللاهوتية والفكرية التي برزت بقوة في الفترة الأخيرة، في سياق الحوارات المنظمة بين الديانتين من الطرفين. ويحسب للملك عبد الله بن عبد العزيز انه وعى بحس استراتيجي ثاقب طبيعة هذه التحديات فرعى عدة مبادرات خلال السنة الجارية لا تنزع للتقريب العقدي الممتنع وإنما إلى رسم اطر التعايش السلمي بين الديانات، لما تقرر من أن التطرف الديني يشكل راهنا بؤرة التوتر الرئيسية في خارطة الأمن الدولي.

ثالثا: لئن كان التطرف الديني ظاهرة مرضية لا يمكن ربطها بالدين نفسه، فان الحقيقة الواضحة هي أن كل الديانات باعتبار تأسسها على الحقيقة المطلقة يمكن أن تفضي إلى التعصب والتشدد إذا خرجت من ضوابطها المؤسسية التي تحدد العلاقة بالآخر. وليست الحالة خاصة بالمسلمين الذين يتوفرون على أكثر المدونات الأخلاقية والمعيارية تسامحا في ضبط العلاقة بالمخالف في الدين، بيد أن الإسلام (السني في الأقل) هو اضعف الديانات بناء مؤسسيا لغياب سلطة دينية فيه، ومن ثم قدرة المجموعات المتطرفة على استقطاب المتشددين الخارجين على النسق الجماعي المشترك.

ولذا، فان الجهد كله يجب أن ينصبَّ لا على بناء كهنوت إسلامي، وإنما التنسيق بين المؤسسات المرجعية في الفقه والإفتاء في البلدان الإسلامية للوقوف ضد وباء يوشك أن يدمرنا ويدمر غيرنا.