حرام ثم حرام ثم حرام

TT

الرحالة الأمريكي (وليام سبيروك) الذي جاب بلاد الشام ومن ضمنها لبنان في أوائل القرن العشرين، أكثر ما أثار إعجابه هو ملاحظته (للتسامح الديني) بين جميع الطوائف للناس البسطاء هناك، ومن ذلك الوقت كان يلقي باللائمة على رجال السياسة، وكأن التاريخ مازال يعيد نفسه.

وفي ذلك الوقت لم تكن للحكومة المركزية سلطة قوية ومباشرة على جميع المناطق والفئات، كان الناس يتدبرون شؤونهم بمقتضى ما جبلوا عليه من قيم ومبادئ ومثل.

وأثار إعجابه شيخ مسلم أمر بالقبض على شقيقه وحاكمه محاكمة علنية، وحكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم من دون أي تردد، وذلك لأن شقيقه اغتصب زوجة رجل مسيحي.

كما أن ذلك الرحالة توقف عندما شاهد جنازة حاشدة، وعندما سأل عن المتوفى وإذا به فلاح درزي بسيط، غير أن أكثر المشيعين كانوا من المسيحيين والمسلمين على مختلف طوائفهم.

ومن كل كلامي السابق أريد أن اخلص إلى أن لبنان من أجمل بلاد الدنيا، وأن شعبه من أذكى وأنبل شعوب العالم، والدلالة على ذلك انه قلما فشل لبناني في أي مهجر هاجر إليه.

وان التباين والاختلاف المذهبي فيه (سلاح ذو حدين)، كان من المفروض أن يكون ذخيرة إبداع وتمايز، غير أن السياسة (الداخلية والخارجية) ـ لا سامحها الله ـ نخرت وأظهرت أسوأ ما في جعبة المتسلطين من بلاوي.

ولو أن لبنان ترك ليحكمه الناس البسطاء بأنفسهم وعلى ما جبلوا عليه من محبتهم للحياة والستر والتسامح، لكان لبنان غير لبنان اليوم.

فمثل هذا الكيان، بمثل هذا الموقع الجغرافي، ومثل هذا التعدد الفئوي، ومثل هذا الجو والطقس البديع في كل الفصول الأربعة، وبمثل هذا الفن والثقافة والتاريخ والحضور، حرام ثم حرام ثم حرام أن يكون هكذا، تتناهشه الضباع والذئاب من كل جانب.

وحرام ثم حرام ثم حرام أن يكون عدد مهاجريه أكثر من عدد سكانه، وبقدر ما أنا محب للبنان فإنني مشفق عليه وغاضب من أجله، فلا تلوموني لو أنني رفعت نبرة صوتي، فما باليد حيلة.

* * *

تألمت وضحكت، عندما سمعت عن وفاة الراهبة الفرنسية الأخت (ايمانويل) قبل مدة قصيرة، وقبل أن تحتفل المسكينة بعيد ميلادها (المئوي) ببضعة أيام، عندما سألوها عن حبها (للشوكولاته) وهل هي سبب تفاؤلها الدائم ومزاجها الرائق؟! قالت: لست ادري بالضبط غير أن لي مصادر أخرى، فأنا أؤمن بالله. هذه الأخت قضت 15 عاماً متواصلاً في القاهرة، ولم تقض هذه الأعوام في فندق الهلتون أو سميراميس، وإنما قضتها كلها في ملاجئ الأيتام وبين أطفال الشوارع والمتسولين وجامعي القمامة.

مسحت الكثير من الدموع، وجففت الكثير من الدماء، وعالجت الكثير من العلل، وجبرت الكثير من الخواطر، بمقالاتها وبصوتها وبتحفيزها للعديد من الجمعيات الخيرية في أوروبا للتبرع والدعم، اللذين صبتهما من اجل هؤلاء المعوزين ولم يدخل في جيبها جنيه واحد.. وعندما عادت إلى بلادها سألوها ماذا تعلمت من هناك؟! قالت لهم: لقد تعلمت كلمة واحدة تعادل الدنيا وما فيها هي كلمة (يا الله)، قالتها باللغة العربية، وقبل أن تموت كانت تلك الكلمة هي آخر كلمة رددتها (وبالعربية الفصحى).

[email protected]