سورية: الصحافة في زمن الدكتاتورية

TT

ليس من عادتي أن أكتب رثاء لراحل معروف. أقرن الرثاء دائماً بتقييم أمين لسلبياته وإيجابياته. وأزيح اليوم أحداث الساعة الساخنة لأكتب عن الصحافة السورية في عصر الدكتاتورية، بمناسبة رحيل الصحافي والزميل جبران كورية (79 سنة) الذي عملت معه في صحيفة واحدة في الخمسينات.

عرفت سورية الصحافة منذ أواسط القرن التاسع عشر. في العصرين العثماني والفرنسي كانت هناك رقابة. لكن العثمانيين والفرنسيين لم يحتكروا إصدار الصحف كما تفعل معظم الأنظمة العربية في عصر الاستقلال.

لعل نجيب الريس والد الزميل رياض الريس كان أهم صحافي في عصر الانتداب الفرنسي. جاء نجيب من حماه إلى دمشق في أواخر العشرينات.

عمل نجيب في صحيفة «المقتبس» محررا. ثم اختصر الاسم بـ«القبس» بعدما أصبح مالكا لها ورئيسا لتحريرها. عندما كان نجيب يكتب الافتتاحية الملتهبة ضد سلطة الانتداب، كان توزيع «القبس» يرتفع إلى أكثر من عشرين ألف نسخة في بلد صغير.

عندما تغضب السلطة المحتلة على الصحافة الوطنية، كانت تخص نجيب الريس بـ«التكريم» كانت ترسل رجال مخابرات الشرطة (الأفندية) إلى مكتب «القبس» ليضربوا نجيب «علقة» ساخنة كمقالاته، وليعيثوا فسادا في أوراقه وأثاثه ومطبعته المتواضعة. عندما يشتد الغضب يحل نجيب ضيفا على زنزانة الاعتقال. في السجن، صاغ نجيب قصيدته الرومانسية الشهيرة: «يا ظلام السجن خيِّم/ إننا نهوى الظلام».

مات نجيب الريس باكرا بمرض القلب. كان ظلام السجن الاستعماري أرق من وحشة وظلم ظلام السجن الوطني. لم ير المعتقل المزمن رياض الترك ضوء الشمس في معتقلات حافظ الأسد على مدى عشر سنين. عندما وصف رياض الاسد الأب بأنه ستالين سورية أعاده الأسد الابن إلى ظلام السجن.

لعل نجيب مات كمدا ومغموما. فلم تعد افتتاحياته الملتهبة ضد نظام شكري القوتلي الديمقراطي تلهب الناس. زوَّر الرجل الطيب القوتلي انتخابات 1947. لكن حرية التعبير لم تمس. لم يُعتقل صحافي واحد. ولم تُغلق صحيفة واحدة.

عاشت سورية في كنف ديمقراطيات باهتة نحو عشر سنين. وعاشت في ظل دكتاتوريات قاسية 45 سنة. احتكر الأسد الأب والابن منها «شرف» السلطة 48 سنة. حاول الدكتاتور أديب الشيشكلي دمج الصحف المتنافسة ليسهل عليه ضبط حريتها. اصدر عبد الناصر أول صحيفة حكومية «الوحدة» في الوحدة. وخير الصحافة المستقلة بين الاحتجاب أو تطويرها وزيادة عدد صفحاتها.

في عصر الانفصال عن مصر (1961/1963) عادت الصحافة إلى الانتعاش في ظل ديمقراطية نظام اليمين المعادي لعبد الناصر. لكن بذاءة صحف الانفصال في الحملة عليه وصلت إلى الكذب ادعاء بأن أمه يهودية! بيد أنها لم تكن تضاهي ذكاء هيكل في تأليب الشارع السوري على الانفصاليين.

في عصر البعث، ارتكب المثقف السياسي صلاح البيطار إثم مذبحة الصحافة. فقد ألغت حكومته الصحف المستقلة التي كان لا بد من الخلاص منها حرصا على مصداقية الصحافة، لكن نظام البعث أصدر صحفا مغرقة في رسميتها ومتشابهة في أخبارها.

إذا كان نجيب الرئيس أهم صحافي سوري في عصر الانتداب الأجنبي، فقد كان أحمد عسه أهم صحافي سوري على الاطلاق في عصري الانتداب والاستقلال. لم تعرف سورية صحيفة في وسع الانتشار وقوة النفوذ كصحيفة «الرأي العام». كانت ديمقراطية القوتلي متسامحة معه ومع شريكه المثقف نزيه الحكيم. سمحت لهما باصدار الصحيفة (1954) على الرغم من كونها في مقدمة مستشاري الدكتاتور الشيشكلي والمشاركين في وضع دستوره المعادي للحرية.

كان أحمد عسه صحافيا سياسيا محترفا. قدرته عجيبة في التحليل السياسي. فَنٌ لا يضاهيه سوى هيكل وغسان تويني في صياغة عناوين التورية الذكية الساخرة والأخبار السياسية المخصصة لخدمة السياسي أكرم الحوراني «مخترع» اليسار الاشتراكي في سورية. لكن هيكل يمتاز على أحمد عسه في أسلوب مشوق وبلاغة نادرين.

كان ذكاء «الرأي العام» فوق طاقة نظام عسكري على التحمل. عندما كتب عسه سلسلة افتتاحيات ناصحا عبد الناصر بالابقاء على حرية الاقتصاد السوري صدر أمر عرفي بإغلاق «الرأي العام» ونقل عسه كاتبا في الصحف الرسمية المصرية. في عهد الانفصال القصير، عاد أحمد لإصدار «الرأي العام». هذه المرة لحساب الاتحاد السوفيتي مستفيدا من إعلانات الشركات الروسية العاملة في الاقتصاد السوري.

لم أعمل مع الصديق عسه في «رأي عام» الانفصال. فقد ملأها بالصحافيين الشيوعيين الذين دوخوا سورية بهستيريا الاعلام الدعائي.

كان عمر أحمد الصحافي قصيرا. فر إلى لبنان بعد الانقلاب البعثي الناصري (1963). ومن لبنان إلى السعودية. هناك أصدر كتابا عن سياسة العاهل الراحل فيصل بن عبد العزيز. حاربه في السعودية السياسيون السوريون اللاجئون هناك. ثم اغترب أحمد برحيله الى المغرب ليعمل مستشارا لا يستشار في الديوان الملكي الذي كان يرأسه السفير الظريف أحمد بن سودة الذي كان التقاه عندما كان سفيرا لدى لبنان.

عمل أحمد لفترة قصيرة رئيسا لتحرير «الحوادث» في أوائل الثمانينات. حاربه محرروها اللبنانيون. اعتبروه «دقة» قديمة، لم يصبروا لاكتشاف ضآلة حرفيتهم أمام صحافي مخضرم في تقنية وذكاء فهمه السياسي، الطريف اني حللت محل صديقي عسه في إدارة تحرير «الحوادث». أنا أيضا لم أصبر على ذكاء المرأة شبه الأمية التي تملكها. لكنها عملت بنصيحتي فقد باعت «الحوادث» إلى مالكها الحالي الاستاذ ملحم كرم نقيب المحررين في لبنان.

عمّر أحمد عسه. مات عن 89 عاما غريبا. دعوت قبيل وفاته الى تكريمه في بلده سورية. لكن «تشرين» التي كنت أكتب فيها زاوية قصيرة لاختبار ديمقراطية بشار لم تنشر الدعوة.

هل للصحافي المستقل ان يعمل في خدمة نظام دكتاتوري شديد الانغلاق؟ ربما لم يكن أمام جبران كورية من خيار بعد عودته إلى سورية من الاغتراب، حيث عمل مذيعا ومعلقا في إذاعة المانيا الشرقية (الشيوعية). عمل جبران في «تشرين» محررا ومعلقا. كان صحافيا كفئا في تقنيته وسرعة تحريره. لكن تعليقه كان انشائيا متأثرا بلغة الماركسيين والبعثيين الخشبية.

عندما طلب حافظ الأسد من وزير اعلامه أحمد اسكندر ترشيح صحافي لإدارة مكتبه الصحافي اختار جبران. نجح جبران في قصر الأسد. طور مهنة المكتب من كتابة التقرير اليومي عن الصحف، الى ناطق رسمي باسم الرئيس. وضع سورية على خريطة العالم. بل حاول تسريب أخبار غير مباشرة للصحافيين دعاية للنظام. وعندما ضعفت ملكات عقل الأسد قبيل وفاته، غدا جبران من اللاعبين السياسيين النافذين. لعله كان ضحية ذكائه وكفاءته. فقد استغنى عنه بشار الابن.

مات جبران منذ أقل من شهرين، مات متقاعدا فقيرا. لم يتورط جبران في فساد النظام. كل ما حصل على بيت متواضع أنعم فيه الأسد عليه. لكن جبران يحفظ في ذاكرة كل من عرفه من صحافيين وغير صحافيين أنه كان متعاليا على الطائفية، نزيها في أمانته، متواضعا ناجحا في كسب الأصدقاء القدامى والجدد.

لن أنسى لجبران انه دعاني في الثمانينات إلى العودة إلى سورية. طبعا، بعلم وموافقة الأسد الأب. كرر الرئيس بشار الدعوة. كررها أيضا وزراء وسفراء. فضلت البقاء في المنفى ولو أني لا أجد في جيبي نفقات العلاج. خفت أن أعود. لم أرغب في أن يكون مصيري كمصير جبران كورية في خدمة نظام قليل الوفاء شديد العداء.