خروف العيد

TT

رغم أن ذبح الأضحية في العيد ليس فرضا واجبا، بل هو أمر مستحب وليس بفريضة لازمة، حسب رأي جمهور الفقهاء، قديما وحديثا، هذا بالنسبة للموسرين، أما الفقراء أو العاجزين عن ثمن الأضحية، فقطعا ليست الأضحية واجبة عليهم، باعتبار أنها سنة محببة. بالرغم من هذا الموقف الفقهي إلا أن أكثر الأسر في العالم الإسلامي، والعربي منه خصوصا، لا تتعامل مع الأمر بطريقة السنة المستحبة، بل باعتباره واجبا سنويا حتميا ترصد له الميزانيات وتسخر له القدرات.

بل ربما ترتكب من أجله المخالفات والجنح!

في الأيام القليلة، التي سبقت مقدم يوم الأضحى، خرجت للسطح جملة من الأخبار ذات الصلة بالدم والتضحيات، فإن صحّ ما قيل عن سبب مقتل ابنة الفنانة ليلى غفران، فإن شابا مصريا معدما هو الذي نفذ الجريمة من أجل الحصول على بعض المال استعدادا لنفقات عيد الأضحى، وأهم هذه النفقات طبعا هو «خروف العيد»، وطالعتنا الأخبار أيضا عن إلقاء القبض على ست نساء في ريف مصر زوّرن توقيع المحافظ في طلب مساعدة مالية من أجل توفير قيمة لحوم الأضاحي، لكن تم كشف أمرهن، وبمناسبة العيد عفا عنهن المحافظ الطيب...

أما في المغرب فأصبح السباق من أجل توفير قيمة خروف العيد على أشده، والأسرة التي لا تريق دم الخروف يوم الأضحى تشعر بنوع من الانكسار و«المهانة» حسب صحيفة «لوبينيون» المقربة من الحكومة التي أضافت: «ما العمل يوم العيد إذا لم يكن لدينا خروف نذبحه؟» مشيرة إلى أن «الاكتفاء باستنشاق قتار شواء الجار يشكل معاناة رهيبة تكاد أن تكون اهانة». ورغم صعوبة الحال بالنسبة للمواطن المغربي العادي وقلة المداخيل، ورغم وصول سعر خروف العيد إلى حوالي 440 يورو، فإن ذلك لم يمنع هذا المواطن من نقد ثمن خروف الأضحى حتى وإن تطلب الأمر الاستدانة! أما في غزة المنهكة بجوعها وحصارها وفقدانها لأساسيات أهم في ظل حكومة حماس «المظفرة» فالغزاويون يعيشون حالة من الترقب والانتظار، فلم يعد المواطن يكترث للكهرباء أو الغاز، بقدر ما يكترث لسعر الأضحية ووجودها من عدمه في عيد الأضحى. وبالرغم من أن بعض الأنفاق قامت وتقوم بتهريب الخراف إلى القطاع؛ إلا أن أسعارها لا تقل عن 300 دولار، وهذا سعر مرتفع جدا لا تقدر عليه إلا العائلات الميسورة جدا (العربية نت).

وفي مصر أيضا، وبسبب إصرار كثير من الناس على ذبح خروف العيد، رغم عجزهم عن توفير قيمته بشكل مباشر، تفتقت الحيلة عن شراء الخروف بالتقسيط، رغم أن كلمة التقسيط صارت الآن تثير الرعب والقلق الاقتصادي، لكن كله يهون من اجل عيون خروف العيد. أما في السعودية ودول أخرى، توصف مجتمعاتها بالغنى، فرغم ما يشاع عن يسار وغنى «كل» الناس، فإن أثمان الأضاحي العالية التي تجاوزت الألف لتصل إلى الألفي ريال سعودي، تشكل إرهاقا واضحا لميزانيات كثير من الأسر، التي أرهق كثير منها بضربات متوالية سوق الأسهم، أو حتى لم تصل لمرحلة تجميع مدخرات تدخل بها إلى سوق الأسهم، خصوصا أن بعض هذه الأسر قد تقوم بالتضحية بأكثر من أضحية، لأسباب تتعلق بعادات التضحية عن الميت بشكل أساسي، رغم أن الأضحية كحكم فقهي ليست متعلقة بالأموات من حيث الأصل، بل هي أضحية عن الأحياء، بالدرجة الأولى.

ما غرض هذا الكلام كله ؟

الهدف هو التوقف عند هذا السلوك الجمعي للمجتمعات العربية التي يحتال كثير من أفرادها وأسرها على قلة ذات اليد وضعف المدخول، من أجل شراء شيء خارج عن القدرة بالظروف الطبيعية، أو هو داخل القدرة لكن يحتاج إلى فترة ادخار أو تقنين للمصاريف، هل كل هذا ينم عن شعور عالٍ بالتدين والتقوى والورع؟ أم انه يتعلق بمظهر من مظاهر المباهاة الاجتماعية ؟ أم هو شيء أبعد من هذا يتعلق بتجديد حالة الانتماء الجماعي للهوية الدينية، التي هي أفق الثقافة النهائية للمجتمعات العربية، وهي، أعني الهوية الدينية، المستودع العميق، والوحيد، للشعور بالذات؟

هناك سلوكيات دينية خفية غير جماعية، مثل الصلاة الفردية في البيت أو العبادات القلبية، أو التسبيح والتهليل الخافت، لا تظهر في العلن، وليست محل رصد من العين الجماعية العامة، مثل الصلاة الجماعية او الحج او عيد الأضحى بما يحف به من أفعال جهرية علنية من الازدحام لشراء الأضحية إلى جلبها لمقر التضحية بحالة من العلنية والاحتفالية إلى توزيع لحومها على الفقراء أو إرسالها للأصدقاء والأقارب والجيران، أو انتشار رائحة طبخها.. كل هذه السلوكيات العلنية هي مناسبة سنوية نادرة لتجديد الولاء والانتماء للذات الجماعية، بطريقة فيها ما فيها أيضا من التوكيد على حالة اليسر والاكتفاء من خلال عدد الأضاحي التي تمت التضحية بها .

وحسب بعض الباحثين في علم الاجتماع الديني فإن «أداء الشعائر الدينية أكثر من ظاهرة او فعل فردي، فهذه الممارسات تتجاوز كونها ـ فقط ـ مرتبطة بالعبادة الإلهية بل هي أيضا تعني الانتماء إلى نسق من الأخلاق العائلية والشخصية التي تتوطد أحكامها وقيمها من خلال جملة من الفروض».( من ورقة الباحث فرحان الديك في كتاب: الدين في المجتمع العربي. مركز دراسات الوحدة العربية 119).

يصبح الأمر، أمر تعزيز الانتماء، أكثر إلحاحا في فترات الخوف من الحاضر والمستقبل أو في لحظات الصراع بين الدولة الحديثة والهوية الجمعية القديمة التي تحيل إلى شرعية القومية أو شرعية المواطنة، فيتكرس في هذه اللحظات الشعور بالخوف والقلق، الأمر الذي ينعكس على تضخم بعض الممارسات الدينية التي كان من سبقنا من المسلمين يمارسونها دون حاجة للمبالغة أو الشغف الجماعي، فالقدماء كانوا يمارسون شعائر أعيادهم او صلواتهم او مناسباتهم الدينية بكل عفوية ودون افتعال أو أجواء «طوارئية»، نسبة لحالة الطوارئ!

الشيء المحيّر هنا، أنه إذا كان الكثير منا يملك هذه العزيمة والإصرار والقتال من أجل توفير قيمة خروف الأضحى، وهي قيمة مطلوبة منه، دينيا، على وجه الاستحباب وليس الإيجاب، فأين تذهب هذه العزيمة وأين يتبخر هذا الإصرار عند تأدية واجبات جماعية ثانية مثل : تنظيف المدن، الشعور بالمسؤولية عن الجميع (الاطفال، العجزة، العنف ضد النساء...) تحت شعار «كلم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، وأين يذهب هذا الحرص عن خلق مجتمع الأحرار الذين أكد حريتهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حين قال جملته الشهيرة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!».

الكل يشكو في العالم العربي من تفشي السرقة وقلة الأمانة وعدم الإحساس بالمسؤولية الجماعية وضياع المجتمع الذي يشجع الإنسان على العيش فيه، وكثرة الإحباط، فمن هو الشاكي ومن هو المشكو في حقه حقا؟!

ليتنا نحرص على التضحية من أجل مستقبلنا الدنيوي بقدر حرصنا على البحث عن خروف العيد، الذي هو بكل حال سنّة مستحبة، وطيبة، لكنها لا ترقى إلى «فريضة» التضحية من أجل الحياة الكريمة والحرة والعاقلة.

[email protected]