قراءة في المجلات الفرنسية

TT

أدخل إلى المكتبة البلدية المقابلة للبيت وأرى أمامي معظم المجلات والجرائد الفرنسية. هل تستطيع أن تقرأها كلها، مستحيل.

ألقي نظرة على العناوين قبل الاختيار والحسم. مجلة التاريخ الشهرية تكرس محور العدد لمسيحيي الشرق، أي للمسيحيين العرب بالدرجة الأولى، نظرا للأحداث المأساوية التي تحصل في الموصل بشكل خاص، وفي المنطقة ككل بشكل عام. وهنا تقول لنا المجلة ما معناه: قبل الغزو الأميركي للعراق كان يوجد في الموصل بين ثلاثين إلى خمسين ألف مسيحي. ولكن القلة القليلة الذين لم يهربوا بعد منهم يختفون الآن عن الأنظار. كيف حصلت الكارثة؟ على أثر الهجوم العراقي ـ الأميركي على الموصل ضد «القاعدة» هاجت كل الأصوليات دفعة واحدة على بعضها البعض، ودفع المسيحيون الثمن. كانوا كبش الفداء. وقد لجأ ألفان وخمسمائة عائلة إلى اقليم كردستان المستقل ذاتيا، وأربعمائة عائلة إلى سوريا في حلب ودمشق أساساً.

وهكذا عدنا قرونا إلى الوراء.. عدنا الى حروب الطوائف والمذاهب ومحاكم التفتيش التي طالما شغلت أوروبا ودمرتها في القرون الوسطى. ونحن في العالم العربي يبدو اننا نعيش قروناً وسطى جديدة. أو قل ان القرون الوسطى القديمة لم تنته فصولها بعد. هل خرجنا من العصور الوسطى يوما ما. أشك في ذلك كل الشك. وهذا يعني ان القومية والاشتراكية والماركسية والناصرية والبعثية لم تكن الا فقاعة صابون أو زبدا يرغو على السطح: سطح القبائل والعشائر والطوائف والمذاهب. لنعد اذن الى المدرسة من جديد والى الصف الأول الابتدائي، ليس لكي نتعلم شيئا جديدا، وانما لكي ننسى ما تعلمناه!.. بعدئذ نتعلم مبادئ العلم والفلسفة والحضارة وحتى الاختلاف والتسامح الديني وحقوق الكائن الانساني بصفته كائنا انسانيا فقط، وبغض النظر عن عقيدته ومذهبه.. بمعنى آخر فإننا مدعوون لأن نتفكك قبل ان نتركب من جديد. ذلك ان الصيغة الحالية التي خلقنا الله عليها يبدو انها أصبحت عاجزة على مسايرة التطور البشري. من يستطيع ان يفكك كل مقدسات الطوائف والمذاهب والعشائر؟ والعياذ بالله! اياك ثم اياك، انك تقترب من الخط الأحمر، بل انك تجاوزته..

أفتح المجلة الفصلية المهمة فلسفيا والتي تدعى (المناقشة) في الترجمة العربية. وأجد الفيلسوف الالماني الشهير هابرماس يحتل المانشيت العريض والصفحات الأولى. وهنا يطرح صاحب نظرية العقلانية التواصلية والحوارية الديمقراطية التساؤل التالي: ما معنى مجتمع ما بعد العلمانية؟ دخيلك أرجوك! نحن نتخبط في مجتمع ما قبل العلمانية أو حتى ما قبل القرون الوسطى العالية، وأنت تقفز بنا مئات السنوات الى الامام حتى تصل بنا الى مشارف عصر ما بعد الحداثة أو ما بعد العلمانية!! لقد ضعنا، دخنا فعلا. كيف يمكن ان يلتقي هذان العالمان؟ كيف يمكن ان يتفاهما؟ من يستطيع ان يترجم بينهما، أن يكون جسر التواصل؟ الهوة سحيقة بدون شك وتشعرك بالاحباط الكامل أنت العائش في مجتمعات الغرب. هل نصاب بالشيزوفرينيا؟ السؤال لم يعد مطروحا أصلا، نحن مصابون وكفى.. عالم متخم شبعان، مهذب، مرتب، يتحدث عن هموم ما بعد العلمانية، وعالم آخر منهك، فقير، جوعان، مهدد بالحروب الأهلية والمجازر الطائفية ولاهوت القرون الوسطى السفلية لا العالية. ثم تجيء ضربة جيش المتقين في الهند أو عسكر طيبة لكي تزيد الطين بلة، وتقنع من لم يقتنع بعد من الاوروبيين بأن الاسلام شيء مرعب حقا!.. لكأنه لم يكفنا تشويهات حتى انضاف هذا التشويه الأخير! وأخشى ما نخشاه ان يحصل شيء مشابه في الصين، حيث يوجد أيضا اقليم اسلامي كبير يعاني من الظلم والتهميش. فماذا لو لجأ متطرفوه الى العنف وفجروا الفنادق في بكين؟ وعندئذ تتآلب كل الأمم علينا من الهند إلى الصين إلى روسيا إلى الغرب الأوروبي ـ الاميركي بالطبع. ولم يبق الا اليابان لكي نستفزها لكي تنغلق علينا الدائرة من كل النواحي.. ولكن لحسن الحظ فإنه لا يوجد فيها اقليم اسلامي.

قال لي أحدهم: القرن الواحد والعشرون سيكون قرن الاسلام. فإما ان تنحل مشكلة المسلمين مع العالم، واما ان تنطبق السماء على الأرض! ومثلما ان المسيحية الكاثوليكية كانت مشكلة القرون السابقة وذبحت العلماء والمفكرين ونصبت محاكم التفتيش في كل مكان وارتكبت المجازر الدموية ضد الآخرين، فإن المسلمين يعيشون حاليا أزمة حادة مع أنفسهم. هذه سنة التاريخ، قانون الكون، بعدئذ تبدأ الاسئلة الحقيقية. بعدئذ يظهر الاصلاح الديني الاسلامي كما ظهر الاصلاح البروتستانتي في أوروبا إبان القرن السادس عشر. وبعدئذ سيشهد الاسلام عصر نهضته وتنويره. أين هو لوثر السعودي، أو فولتير الايراني، أو كانط المصري، أو سبينوزا التركي، أو هيغل الهندي، أو اركون الباكستاني؟ لا أحد.. ربما كنت أبالغ قليلا في تسويد الصورة. فهناك مثقفون محترمون هنا وهناك. بل وقرأت مقالة جميلة مفيدة هنا على صفحات «الشرق الأوسط» لمشاري الذايدي عن تفجيرات بومباي، هذا من دون أن أنسى المقالات الهادئة والعميقة لتركي الحمد.. ولكن هذا لا يكفي. تلزمنا كتب وموسوعات وحركات تنويرية ضخمة تشمل العالم الاسلامي من أقصاه إلى أقصاه وأخيرا: المستقبل هو لعالم العرب والاسلام على الرغم من كل شيء.