إلى السيد هنري كيسنجر مع التحية

TT

علاقة السيد هنري كيسنجر بالادارة الأمريكية والسياسة الأمريكية منذ أكثر من ثلاثين عاماً تشبه حالة المفاعل الكيماوي المتزن الذي يتحرك في اتجاهين، من ناحية أن الرجل يأخذ من الإدارة والسياسة ويعطينهما ويستمد منها ويمدها، فهو من الواقفين على زوايا السياسة المطلعين على خفاياها وأحيانا من الصانعين لهذه السياسة أو المشاركين في صنعها تحليلاً وتعليلاً وإشارة بما ينبغي أن يُصنع، فقد دخل الرجل البيت الأبيض مستشاراً للأمن القومي وتولى وزارة الخارجية في إدارة كل من الرئيسين نكسون وفورد، وهذه المكانة تضع صاحبها في منزلة من يُنظر إليه إذا ظهر ويُسمع له إذا قال، ومع أن الزمن قد ألقى عليه غباره وأنه لحق به ما يُلحقه تقدُّم السن من عوامل «التعرية» مما يطفئ البريق ويقلل التصفيق، إلا انه لا يزال يتمسك تمسكاً كبيراً بما يظنه يبقي له مكاناً في دروب السياسة وذاكرة الحاضرين من صانعيها.

منذ أسابيع قليله (18 سبتمبر 2008) كتب السيد كيسنجر مشتركاً مع زميله مارتن فيلدستاين (Martin Feldstein) مقالا في جريدة «هيرالد تربيون» عنوانه «الخطر المتنامي لارتفاع سعر النفط» يحمل استثارة واستعداء لدولته والدول الغنية القوية الأخرى على مجموعة من الدول الصغيرة غير المنافسة للأولى بأي نسبة من المنافسة في غناها وقوتها وتأثيرها، وعندما رأيت كتابة هذه الكلمة خطر لي أن تكون بلغة المجتمع الذي هما من أفراده وأن يُنشر في المكان الذي نشرا فيه، إلا انه صرفني عن ذلك عدة أمور.

الأول: أن ما كتبه الرجلان عن جهل جاهل، أو غفلة غافل، فيفيد عندئذ التذكير بمعلوم أو التنبيه إلى مغفول عنه، فالرجلان من المتمرسين بالسياسة العارفين بمقاصد الاقتصاد الراصدين للوقائع ولا يختلف زميله عنه في هذا الجانب، وعلى ذلك يكون الظن أن ما كتباه شيء سببه نقص معرفة أو حالة غفلة ظن ينقصه الحد الأدنى من الفطنة.

الثاني: أن تصل هذه الكلمة إلى أكثر عدد من قراء العربية ـ دولهم ومجتمعاتهم ـ لأنهم المستهدفون بمنطوق ما كُتب ومفهومه.

الثالث: أنه من المحتمل أن يوجد في المجتمع الذي انتمى إليه من تحمله الثقة في ما كتب السيد كيسنجر ـ بما له من مكانه سابقة في الماضي ولا تزال في الحاضر ـ على الاعتقاد أن مثله لا يصدر إلا عن معرفة ولا يقول إلا عن صدق ولا يحكم إلا عن تجرُّد، وأنه الأقدر على إظهار ما يخفي وحل ما يتعقد.

الرابع: معرفتي أن جل ـ إن لم يكن كل ـ ما يُكتب باللغات الأخرى متعلقاً بسياسات الولايات المتحدة أو مصالحها ستجد عيناً راصدة تقوم بنقله وتحليله وتعليله.

ما كتبه الرجلان في الصحيفة المذكورة يتعلق بالنفط والجهة التي ذكرا أنها المتحكمة فيه انتاجاً وثمناً وتسويقاً، وهي الدول المصدرة لجزء منه أي دول الـ«أوبك» (opic)، ولتفادي الإحالة على مجهول واضطرار القارئ إلى عناء الرجوع إلى ما تحدث عنه، نوجز في ما يلي النقط الرئيسية التي أراد الكاتبان أن يطبعاها في ذهن قارئهما ويؤصلاها فيه، وهي النقاط التالية:

تضاعف سعر النفط يمثل أكبر تحول للثروة في تاريخ البشر، وهذا التحول ستتنج عنه عواقب سياسية كبيرة، وليس أقل جوانب هذا الإعصار السياسي والاقتصادي هو انتزاع القوة من أقوى دول العالم من قبل أضعف الدول فيه

أسعار النفط لا تحددها المنافسة في السوق، بل أن معظم المنتجين يستطيعون، وقد فعلوا، رفع وخفض الأسعار عن طريق رفع أو خفض الإنتاج.

إنهم يستطيعون التحكم ومضاعفة تصاعد الأسعار بتصريح منهم أو قرار.

سيستمر المنتجون في التحكم في قوة السوق حتى تخفض الدول المستوردة بحدة اعتمادها على النفط المستورد، وتتبنى استراتيجية سياسية لمواجهة ابتزاز دول الـ«أوبك» للدول الصناعية المستهلكة.

ارتفاع أسعار الطاقة سوف يخفض مستوى الحياة في الدول المتقدمة ويخل بالتوازن في المدفوعات.

إن جزءاً من هذا العائد سيذهب إلى مجموعات متطرفة مثل حزب الله.

لعل أول ما يستوقف القارئ لهذا المقال هو استعانة السيد كيسنجر بشخص آخر أو استعانة زميله به، وإذا كانت مكانة د. كيسنجر معروفة ـ كما سبق ـ فإن د. فيلدستاين ليست صغيرة، فهو أستاذ للاقتصاد في أعرق الجامعات الأمريكية (هارفرد) ورئيس المكتب الوطني لأبحاث الاقتصاد، أي أن ما يستغرب أن يستنجد أحدهما بالآخر لكتابة مقال صحفي ليس موضوعه محاولة اكتشاف قانون من قوانين الكون أو ازاحة الستر عن سر من أسرار (المادة) ولكنه موضوع قد رث لكثرة ما طُرق ومُلّ لترديده والإلحاح فيه، ولعله من الصعب إن لم يكن من المتعذر تعليل او تحليل ما جاء في المقال إلا من باب «لهوى النفوس سريرة لا تُعلمُ» على أن «الهوى» هنا معلوم غير مجهول وظاهر غير خفي، والمقال يكشف عن التالي:

استهلال المقال بالقول إن ما حدث هو أكبر تحول للثروة في تاريخ البشر دعوى لم يكلفا نفسيهما إثبات صحتها وهي تشِفُّ عن الرغبة الجامحة في التهويل والاستثارة، لا يُنتظر ممن يتصف بأي قدر من الاعتدال أن يقع فيها.

بدأ الرجلان بمقدمة لم تثبت ليُرتبا عليها نتائج لا تصح، وقد استنتجا أن هذا الزلزال ـ كما سمياه ـ سوف يترتب عليه نتائج سياسية واقتصادية ليس أقل جوانبها انتزاع القوة من أقوى الدول وأغناها من قبل أضعف الدول، ولا أظنه يخفى على فرد ما في ناقوس الخطر الذي يدقه الاثنان مما ينطوي على إيماءات تدعو إلى الاستعداء وما فيه من مجانبة للحقيقة ومخالفة للواقع، وليس هذا فحسب بل أن الكاتبين لم يجدا داعياً لوضع ولو غلالة لإخفاء دوافعهما الحقيقية، إذ ليس من المحتمل أنه من باب الغفلة أو المصادفة أن يستعملا مفردة انتزاع، والانتزاع ـ كما لا يخفى ـ أخذ الشيء بالقوة والإكراه من صاحبه أو مالكه، وهل اراد الكاتبان أن ينسبا إلى أضعف الدول (كرامة) لم تُمنح لسواهم، وإلا كيف أمكن لأضعف الجانبين أن ينتزع بالإكراه من أقوى الجانبين أغلى ما يملك، الكاتبان لم يقولا أن هذه القوة انتقلت أو ستنقل بذكاء الطرف الأضعف أو حيلته أو حتى بمكره ولكنه بشيء آخر لا يشارك هذه الدول الضعيفة فيه إلا وحوش الغابات وهو الانتزاع.

يقول الكاتبان إن أسعار النفط لا تحددها المنافسة المعروفة من السوق، بل إن بعض المنتجين يستطيعون واستطاعوا رفع وخفض الأسعار عن طريق رفع وخفض الإنتاج، وهذا القول لا يمكن أن يصدر من فرد إلا لأحد احتمالين، أولهما أن يكون القائل معزولاً عزلاً تاماً عن الواقع المعيش والمزاولة وعن الاطلاع على أي شيء سياسي أو اقتصادي يجري في مجتمعه والثاني أن يفترض القائل إن من يوجه إليهم مقاله هم ممن يعيشون هذا العزل، وإذا كان الاحتمال الأول مما يتعذر الأخذ به أو يستحيل فهل كتب الكاتبان اعتماداً على الاحتمال الثاني؟... وإذا كان الأمر كذلك فهل هناك هجاءٌ لمجتمع الكاتبين أوجع من هذا الهجاء؟... الاحتمال الأول يتعذر الأخذ به لأن الكاتبين لا يجهلان أنه حتى عام 1973 لم يكن سعر وحدة إنتاج النفط (البرميل) يزيد عن دولارين وثلاثة أرباع الدولار، ومنذ أواخر 1973 وبداية 1974 صارت الأسعار ترتفع، كما بدأ العامل المضاد وهو زيادة الانتاج ـ بفعل الدول المنتجة ـ في هذه المجموعة، إذ ارتفع إنتاج أكثر الدول تصديراً وهي المملكة العربية السعودية في أوائل الثمانينات إلى نحو ثلاثة أضعاف إنتاجها السابق لتصاعج الأسعار، محاولة منها لكبح ارتفاعها، من منظور أن الأسعار المرتفعة هي أقوى حافز على التماس بدائل أخرى للطاقة، ولم تنفرد المملكة بهذا التوجه بل سلكت هذا المسلك معظم الدول المصدرة للنفط، أي أن زيادة الأسعار كانت توازيها زيادة في الإنتاج، وواضح أن ذلك لا يعني إلا شيئا واحداً هو أن ارتفاع الأسعار ليس من عمل الدول المصدرة أو ليس في قدرتها، وإلا فكيف تفعل الشيء ونقيضه، ويدل على ذلك ويؤكده أنه عندما انهارت أسعار النفط انهياراً يشبه عملاً من أعمال الشعوذة في عام 1983 وما بعده وبقيت الدول المصدرة تعيش سنوات عجافاً من سنوات العسرة امتدت إلى عام 1998، فهل يعلمنا الكاتبان عماذا استطاعت الدول المصدرة فعله لإنقاذ نفسها من سنوات العسرة وما تبع ذلك من توقف مشاريعها وإلجام تطلعاتها، بل إلى لجوء بعضها إلى فرض ضرائب رافداً لدخلها الذي ضمر إذا كانت هي المتلاعبة بالأسعار والمتحكمة فيها كما اكتشف الكاتبان، وهل نفعها خفض بعض الدول إنتاجها إلى ما يقرب من ثلث ما بلغه في أوائل الثمانينات؟ أم أن العصا السحرية التي كانت في يد الدول المصدرة للنفط تتحكم بها في سعره هبوطاً وارتفاعاً انتقلت إلى يد الكاتبين فحبساها عن أصحابها لمدة ستة عشر عاما وهي سنوات العسرة، ثم هل التصاعد الأخير ـ بعد عام 1998 ـ كان بسبب تفضل الكاتبان على دول الـ«أوبك» بإعادة العصا السحرية إليهم لتعود الأسعار إلى ما وصلت إليه؟ وهذا الانهيار هل هو بسبب ضياع أو استعادة الكاتبين لهذه العصا مرة أخرى؟

يعود جرس الإنذار الذي يطلقه الكاتبان مرتفعاً في حدة نبرته ليدعو بحرارة الدول المستوردة إلى أن تخفض بقدر كبير اعتمادها على استيراد النفط وإلى أن تتبني استراتيجية موحدة لمواجهة ابتزاز دول الـ«أوبك»، وهنا لنا أن نسأل الكاتبين هل استخدمهما لمفردة (ابتزاز) ومدلولها غير مجهول جاء غفلة أو سهواً، وكيف قبلت دول قوية وذكية ذات نفوذ أن تخضع لابتزاز من قبل أضعف الدول لمدة خمسة وثلاثين عاماً، ولماذا لم تنتبه نخوة الكاتبين لمجابهة هذا الابتزاز إلا في هذا الوقت؟

أما قول الكاتبين أن دول الـ«أوبك» تستطيع التحكم في الأسعار بتصريح واحد منها، فلا نظن أن هناك ما يدعو لانتزاع الابتسام من فم محزون أكثر من هذا القول، إذ أنه يعني أن معاناة الدول الدول المصدرة خلال سنوات العسرة كان رغبة من هذه الدول لتلك المعاناة وارتياحاً إليها.

القول إن ارتفاع أسعار النفط سوف يخفض مستوى الحياة في الدول المتقدمة ويخل بالتوازن في المدفوعات ويزيد من التضخم، إلى آخر هذه القائمة التي حشدها الكاتبان من المحذورات، فنود لو قال لنا الكاتبان شيئاً عن مدى تأثير سنوات انخفاض أسعار النفط الطويلة على اتجاه هذه المتغيرات وحمداً لدول الـ«أوبك» صنيعها إذا كان هذا الانخفاض أحد وجوه اللعبة التي تزاولها، أما القول إن سبب الاختلال في ميزان المدفوعات الأمريكي هو ارتفاع سعر النفط فنتمنى لو كان الكاتبان أكثر انصافاً بأن قدما للقارئ جدولاً لميل منحنى هذا الميزان منذ عشرات الأعوام، وهل هذا الميل السالب فيه والذي بلغ في بعض الشهور ثمانين ملياراً من الدولارات مقترن بارتفاع أسعار النفط دون سواه.

قول الكاتبين إن جزءا من سعر النفط سيذهب إلى المجموعات المتطرفة لا نرى ما يسوغه إلا تجاهل الكاتبين أن الدول المصدرة وأولها المملكة العربية السعودية هي الأكثر معاناة للعنف والتطرف والأكثر محاربة له. تبقى بعد ذلك حقيقة كبرى لم يغفلها الكاتبان نسياناً لها ولا بخساً لمقدارها وأثرها في ما يشكوه الناس من ارتفاع اسعار النفط، هذه الحقيقة هي أن الجزء الأكبر من ثمن ما يدفعه المستهلك لوحدات الإنتاج تذهب إلى خزينة الدول المستوردة على شكل ضرائب تفرضها على هذه السلع المستوردة ، إذ تصل هذه الضرائب في بعض الدول المستوردة إلى ثلاثة أضعاف ما يُدفع للمنتج، وإلى أكثر من ضعف ما يُدفع للمنتج في الولايات المتحدة نفسها، ولعل ذلك مراعاة للمنتجين في أراضيها.

وبعد فإن ما كتبه هذان الكاتبان يحمل على الدهشة من ناحتين:

الأولى: هو ان الحقيقة على الناس وقدرة بعضهم على التحرر من احترام الذات.

الثانية: اعتماد فئة من البشر على أن من يدرك الحقيقة ويعيها في مجتمعهم والمجتمعات الأخرى نفر قليلٌ قليل.